جاري التحميل الآن

“إذا طبّاخنا جعيص شبعنا مرق”.. التثقيف السياسي وجذور طلائع البعث

“إذا طبّاخنا جعيص شبعنا مرق”.. التثقيف السياسي وجذور طلائع البعث

“إذا طبّاخنا جعيص شبعنا مرق”.. التثقيف السياسي وجذور طلائع البعث


عجوز من ريف دمشق، يشيرون لها على رجل ملقى على الأرض وآثار دماء على وجهه، يقال لها إنه المتسبب باستشهاد ابنها، تهرع باتجاهه، تمسك بحذائها المهترئ، تومئ به عليه وتؤنبه بكلمات خافتة مليئة بالحرقة والألم: “لماذا فعلت هذا؟ لماذا هانت عليك الجيرة؟”.

الرجل أمامها محمر الوجنتين، جاحظ العينين، يمضغ ريقه بصعوبة، يخطف نظراته على الناس الملتفة حوله، يغطي وجهه بكوعه، وكأنه يتحضر للكمات قادمة بعد انتهاء حفلة التصوير.

مشهد آخر لرجل تبدو عليه مظاهر القوة يضرب رجلاً بالخمسينيات، ويطلق وابلاً من الكلمات النابية، ثم يجره كما تجر الذبيحة إلى مسلخها، الرجل يتلعثم بيمينات مغلظة، وإنكارات متكررة: “والله العظيم ما عملت شيئاً”.  ثم ينشر ناشطون تقارير أمنية مذيلة باسمه رفعها بأبناء قريته.

لا نستطيع أن نؤكد أو ننكر ما يرد بمئات المقاطع التي نشاهدها يومياً، يمكن للقضاء أن يقول كلمته، وللصحافة الاستقصائية أن تلعب دورا مهما في البحث عن الحقيقة.

عشت لأيام مع هذه المشاهد، اقلبها، أكرر المشاهدة وأتساءل: لماذا يجرم هؤلاء بأنفسهم، عندما يتورطون بالوشاية، وموالاة المجرمين؟ أسئلة كثيرة تصرخ في رأسي دون أن أجد إجابات تُسكت ضجيجها.

تربية طلائع البعث

تُزرع بذور التسلط، والوشاية منذ لحظة طلائع البعث، عندما يكتب عريف الصف أسماء المشاغبين من زملائه، بعد أن يُمنح السلطة، فهو الصادق الأمين عند المعلم، وبقية الطلاب مطعون بشهاداتهم.

تغرس هذه البذور في تربة الاستبداد، فتنبِتُ مواطنين متنافسين على مكرمات القائد الأوحد، فتخبو فيهم الجوانب الإنسانية، وتتعزز النرجسية، تتمظهر هذه العقد النفسية الدفينة عند ممارسة أي نشاط اجتماعي أو سياسي، نجدها في تركيبة الأحزاب والمنظمات الموالية والمعارضة على حد سواء، فأغلبها عائلية، أو شللية، فتورث أمانة الحزب، كما تورث رئاسة البلاد.

وللمحافظة على قيادة الحزب، تخلق بيئات عمل جاذبة للكفاءات في طور التشكل بحثاً عن الشرعية، ثم يتحول إلى مؤسسة مغلقة، طاردة لكل الكفاءات التي أسهمت بتشكيلها.

سرديات الحكم والسلطة

حتى دوائر الدولة في عهد النظام السابق كانت تدار بهذه العقلية. أذكر أن مديراً لـ “مديرية التخطيط” في إحدى المحافظات أُحيل إلى التقاعد، بعد إدارتها عشرين عاماً تقريبا، وخلال كل تلك المدة كان حريصاً على أن يبقى هو الجامعي الوحيد وبقية الموظفين من الفئة الثالثة والرابعة، وكان يجيب على كتب الوزارة التي تطلب منه تقدير حاجة المديرية للعاملين، أنه بحاجة لعاملين من الفئات الثالثة والرابعة فقط، ثم يبذل جهوداً كبيرة لتدريبهم حتى ينجزوا مهام تكلف عادة لموظفين من الفئة الأولى والثانية.

التجربة علمت مدير التخطيط المتقاعد طرقاً إدارية منسجمة مع المناخ العام، لم تُعلمه أن يطور مهاراته، ويصقل خبراته، ويضع نفسه بأجواء تنافسية، فقد ذكر جهاد مقدسي في أحد لقاءاته أنه اقترح أن يُتلى بيان نفي وجود أسلحة كيماوية على لسان ناطق باسم وزارة الدفاع، فأجابه الرئيس المخلوع: “عم نحاول ندرب ناس وما عندي حدا، شو أعمل؟”.

لا توجد كوادر سورية في مؤسسة الجيش، هل يعقل هذا؟

***

 إذا نظرنا إلى تواصل الناشطين الإعلاميين بعد اندلاع الثورة مع وكالات الإعلام العالمية سنوقن أن المشكلة ليست في الكوادر إنما في ولائها، والنية الجدية لتمكينها، فالكفاءات السورية تشكل خطراً على منظومة القائد الواحد، لذلك تكررت عبارات مثل “إذا سقط الأسد فلا يوجد بديل” على ألسنة الموالين له، والدول الصديقة لمنظومته.

مدير التخطيط هكذا تبرمج وعيه الإداري، والرئيس الهارب هكذا تعلم السياسة. إنها قيم سياسية متوارثة تاريخياً عن القياصرة والأكاسرة والسلاطين وغيرهم، وليست “قيم الإسلام السياسية التي بقيت أجنّة، فلم يسمح لها السياق التاريخي بالنمو الطبيعي” كما يصف الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال.

إذن، فجذر مشاكلنا يتعلق بوعي سياسي سائد يلقن للأطفال منذ مرحلة “طلائع البعث”؛ مرحلة “العريف” وكتابة تقارير علنية للشَغَب الصفّي بزملاء المقعد الدراسي، لينتقل في الكبر إلى كتابة التقارير السرية بمظاهرات الشعب الثورية، فيكتب “المواطن/ المخبر” التقارير بزوجته وأقاربه، كما عكسه الفيلم المصري “معالي الوزير” (تأليف وحيد حامد)، عندما يرفع الوزير في شبابه التقارير في زملاء الجامعة، حتى خطيبته يرفع فيها تقريراً فتسجن ستة أشهر، وبعد خروجها يتزوجها؛ ويستمر بكتابة التقارير فيها!

يقول السيد الوزير لمدير مكتبه: “المباحث فرحت جداً بالزيجة دي، أي نشاط ليها كان مسجل ومرصود… عمرك شفت واحد يكتب تقرير بمراته؟”.

حيرة وإحراج تبدو على وجه مدير مكتبه، ويبقى السؤال معلقاً دون جواب، فيلح الوزير: “عمرك شفت سفالة أكثر من كده؟”، ليجيب مدير مكتبه محرجاً: “بصراحة.. لا يا فندم”.

محاضرات الوعي السياسي

بعض المحاضرين في الوعي السياسي توقف وعيُهم عند لحظة “كتاب الأمير” لـ مكيافيلي، وما زالوا يلقنون الناس وعياً سياسياً متوارثاً عن ممارسات السلاطين والملوك في التاريخ الإسلامي بعد الخلافة الراشدة.

حتى بعد الثورة، تشكلت أحزاب وتيارات، ومنظمات، ومجالس على أسس عصبوية، ليعللوا ذلك بأن رسول الله عليه الصلاة والسلام بدأ بتكوين الدولة بالمقربين منه، وبمن كانوا أهلاً بثقته، ثم توسعت الدائرة، وهو تعليل أيضاً يشبه إلى حدّ ما حادثة رفع المصاحف على الرماح في معركة “صفّين، والذي وُصِف حينذاك بأنه “حقٌ يراد به باطل”. فهؤلاء يدركون أنهم يستطيعون إطالة مرحلة التكوين حتى تنقضي أعمارهم وهم في مواقعهم، بحجة أن الدائرة لم تتسع، فنجد أن أمين الحزب يبقى في منصبه دون أن يتزحزح، ورئيس المنظمة يستمر بمنصبة لا يتغير، ولسان حالهم كما هو لسان حال الأسد لجهاد مقدسي “ما عندنا كفاءات”.

إن أخطر ما في هذا المنطق ليس قلة الكفاءات، بل تجفيف منابعها من خلال محاربتها، وتهميش أصحابها وتشويه سمعتهم، هذا ما فعله نظام الأسد، وهذا ما يفعله كل من يريد الاستئثار بالسلطة سواء أكانت سلطة في مؤسسة استهلاكية أم في حزب سياسي.

***

إن رمي كل مشاكلنا على نظام سابق، أو سلطة حالية وتبرئه النفس، ورفض تحمل المسؤولية ناتج عن وعي سياسي مزيف، علينا مراجعته كنظرية وسلوك.

وعي سياسي مبني على صناعة التبعية العمياء، وتجفيف ينابيع المنافسين المحتملين، والأتباع لا يبنون الأوطان الحرة المزدهرة، أنهم ينتقلون من سيد إلى آخر، وهذا بدا واضحاً بعد الثورات في الواقع وفي الدراما، فبعد إعلان الثورة على المارشال “عرفان الرقعي” في مسلسل الواق واق  قال أبو دقور: “أنا مع المارشال حتى لو أعدمني”.

فيسخر الدكتور معيط على رومانسية الثوار، لعدم إدراكهم أن “كلب الزعيم لا ينبح على الزعيم إلا إذا صار كلباً لزعيم ثان” على حدّ وصفه.

فعديم الكفاءة لا يشعر بكينونته إلا في ظل سيد يعطيه منصباً لا يستحقه، يترافق ذلك مع شعور بالدونية والعار، يغذّيه ويستثمر فيه صاحب السلطة، ليظفر  بولائه المطلق.

وبين ولاء كَتَبَةِ التقارير لأسيادهم وبين محاضري الوعي السياسي المزيف، تتربى أجيال وأجيال، ولمثل هؤلاء يقول المثل الشعبي الرقاوي: “إذا طباخكم جعيص، شبعتم مرق”، وبين مرق جعيص الباهت وآراء معيط السافل، يرتوي الشعب من حنظل الاستبداد المُعتّق.

#إذا #طباخنا #جعيص #شبعنا #مرق. #التثقيف #السياسي #وجذور #طلائع #البعث

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات