الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى

الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on pinterest
Share on email
Share on whatsapp

شهد هذا لاحقا

الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى

👩‍⚕️ #الصحة #العقلية #والنفسية #بالمغرب #رحلات #استشفاء #تعمق #جراح #المرضى


الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى

محمد (اسم مستعار)، عشريني يقيم بضواحي بني ملال، خسر حريته بسبب الاضطراب العقلي الذي فرض عليه الإقامة الجبرية بالسجن العائلي.. ثلاثة أمتار تكفي هذا الشاب للعيش داخل زنزانته المهترئة التي تغرق ليل نهار في الظلام المطبق، لتصبح بذلك مقر إقامته الاختيارية والإلزامية في الوقت نفسه!.

محمد، مثلما يحكي لنا والده، “شبه حي”؛ لأنه مجبر على العيش في تلك العلبة الضيقة من الإسمنت، لتصبح الأسرة الصغيرة بدورها مجبرة على التعايش مع هذا الواقع، وهو الخيار الوحيد المتاح إليها، لتتحول حياة هذه الأسرة إلى معاناة لا تطاق، بفعل غياب سرير استشفائي لابنها في مؤسسات الصحة العقلية.

“كنْحسوا بالحكْرة”؛ هكذا تحدث إلينا والد المريض العقلي، وهو يذرف دموعا حارة لا تتوقف، قبل أن يخاطبنا بالقول: “وضعته داخل هذا القفص المسيج من الأعلى بقضبان الحديد لكي لا يفر من المنزل”، ثم أضاف بحسرة: “أطعمه، بمعية جدته التي سبق أن اعتدى عليها، ونضطر إلى تكتيفه أثناء قضاء الحاجة والاستحمام لكي لا يعتدي علينا”.

محمد نموذج لآلاف المغاربة الذين يعانون من مستويات ضعيفة من الصحة العقلية والنفسية، إثر ظروف اجتماعية واقتصادية وصحية معينة سببت لهم اضطرابات عميقة تحتاج إلى العلاج والمواكبة؛ غير أن واقع الطب النفسي والعقلي بالمؤسسات الاستشفائية يحول دون تمكينهم من العلاج المطلوب في الوقت والمكان المناسبيْن.

معتقلات استشفائية!

في ظل ضعف الطاقة الاستيعابية لمستشفيات الطب النفسي بالمغرب، تضطر عائلات المرضى النفسيين والعقليين إلى “سجن” أبنائها بالمنازل تفاديا لتبعات أفعالهم السلوكية. خديجة (اسم مستعار)، خمسينية تقطن بالقنيطرة، إحدى الحالات التي التقتها هسبريس، وحكت لنا قصتها الإنسانية مع ابنها الذي يضفي على بيتها الأسى والشجن.

داخل منزلها الضيق، شيدت خديجة غرفة صغيرة على شاكلة زنزانة من أجل سجن ابنها المريض عقليا. خلال حلولنا بالمكان، لم يكن ابنها حاضرا مخافة الاعتداء علينا. تحدثت لنا الأم عن واقعها المعيشي، وهي تحرك حواجبها صعودا وهبوطا، بالقول: “يضربني لما تواجهه نوبة نفسية!”، وأضافت باستطراد: “أتركه وحيدا بالبيت؛ لأنني أحتاج إلى كسب قوتي اليومي، بعد وفاة والده”.

وواصلت المتحدثة بصوت خفيض: “يعاملني بقسوة شديدة خلال نوبات القلق؛ لكن ذلك خارج عن إرادته.. يتناول أدويته؛ غير أن حالته الصحية لم تتحسن بعد”.

توقفت قليلا عن الحكي، وأذرفت الدموع في لحظات سريعة، ثم استطردت بتأكيدها على أنها تأمل استقبال ابنها بمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية بسلا.

وبالنسبة إلى محمد هاشم التيال، اختصاصي في الأمراض العقلية والنفسية، فإن “هذه الأمراض تكون على شاكلة نوبات؛ وهو ما يستلزم ضرورة حماية المرضى من أنفسهم، وحتى من المجتمع”،

لافتا إلى أن “الأسر تكون مجبرة على سجن أبنائها لأسابيع حتى تنقضي النوبة، بسبب ضعف الطاقة الاستيعابية بالمشافي وارتفاع التكلفة المادية بالمصحات الخاصة”.

“انتكاسة” عقلية

دراسة سابقة لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية أظهرت، بناء على المسح الوطني للسكان الذين تفوق أعمارهم 15 سنة، أن 42.1 في المائة من المغاربة عاشوا اضطرابا نفسيا أو عقليا في فترة من الفترات؛ بينما يعاني 26 في المائة من مجموع هؤلاء من الاكتئاب (خمسة ملايين ونصف المليون شخص)، ويعاني 9 في المائة من القلق، و5 في المائة من الاضطرابات الذهنية، و1 في المائة من مرض الفصام (370 ألف شخص تقريبا).

وبهذا الشأن، أفادت دراسة تقنية، أنجزتها منظمة الصحة العالمية في بداية الألفية الثالثة حول الصحة العقلية بالعالم، بأن الاضطرابات النفسية والعقلية أكثر شيوعا لدى النساء المغربيات (34.3 في المائة) بالمقارنة مع الرجال (20.4 في المائة)، مبرزة كذلك أن نسبة الانتحار ترتفع في صفوف النساء (21 في المائة) أكثر من الرجال (12 في المائة)، مرجعة هذه الأرقام إلى تصاعد العنف المنزلي والمجتمعي بالمناطق الحضرية.

وتبعا لمخطط الصحة 2025، لا يتعدى عدد الأسرّة الاستشفائية المخصصة للمرضى النفسيين والعقليين 2320 سريرا بالقطاعين العام والخاص. وحسب إحصائيات القطاع الوزاري، يتوفر المغرب على 450 طبيبا نفسيا، و220 اختصاصيا نفسيا، و1400 من الممرضين. وتخصص الوزارة 6 في المائة من ميزانية الأدوية لفائدة برنامج الوقاية من هذه الأمراض، بما مجموعه 90 مليون درهم تقريبا.

وبخصوص الطاقم الطبي، يشتغل 35 في المائة من الأطباء المختصين في الأمراض العقلية العاملين بالقطاع العام في المركزين الاستشفائيين الجامعيين بالدار البيضاء والرباط فقط؛ في حين يتوفر المغرب على مصحتين متخصصتين في معالجة الاضطرابات العقلية، وفقا لمضامين تقرير سابق أعده المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول وضعية الصحية العقلية بالبلاد.

الدواء جزء من الداء

المعطيات سالفة الذكر تدق ناقوس الخطر حول واقع الأمراض النفسية والعقلية بالمغرب. وللتأكد من حقيقة تلك الإحصائيات، حصلت هسبريس على بيانات حصرية من شركة “أكيوفيا”، العاملة بمجال الرعاية الصحية في العالم، حيث بلغ مستوى الإنفاق المغربي على الأدوية النفسية والعقلية إجمالي 86.6 مليارات سنتيم سنة 2019، ليواصل الاستهلاك مساره التصاعدي سنة 2020 حتى بلغ 96.4 مليارات سنتيم؛ أي بزيادة قدرها 11 في المائة، ثم ارتفع الاستهلاك من جديد سنة 2021 ليصل إلى 99 مليار سنتيم.

وأثناء إعداد هذا التحقيق، علمت هسبريس كذلك أن عدد الوحدات المستهلكة من الأدوية الخاصة بالاضطرابات النفسية والعقلية (تكون بوصفة طبية) قفز من 12.3 ملايين علبة سنة 2019 إلى 14 مليون علبة بنهاية سنة 2021. وتأتي مضادات الاكتئاب في مقدمة الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية والعقلية (Les psychotropes)، حيث انتقل مستوى الإنفاق عليها من 43 مليار سنتيم سنة 2019 إلى 50 مليار سنتيم سنة 2021.

وبناء على البيانات الخاصة لشركة “أكيوفيا”، انتقل مستوى الإنفاق المغربي على مضادات الذهان (مهدئة للأعصاب) من 30 مليار سنتيم سنة 2019 إلى 35 مليار سنتيم بنهاية 2021. وبخصوص المهدئات (أدوية القلق)، استهلك المغاربة 3.1 مليون علبة سنة 2019، بما قيمته المالية 10 مليارات سنتيم، قبل أن يرتفع الرقم إلى 3.5 ملايين علبة بنهاية العام الفارط، بما قيمته المالية 11 مليار سنتيم.

وفيما يخص الحبوب المنومة، التي تندرج أيضا ضمن عائلة الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية والعقلية، فقد وصل عدد الوحدات المستهلكة منها إلى 404 آلاف علبة سنة 2019، بما قيمته المالية 2.2 مليار سنتيم، ثم انخفض العدد إلى 393 ألف علبة في أواخر سنة 2021، بما قيمته المالية 2 مليار سنتيم، حسب تقرير الشركة الدوائية التي خلصت إلى ارتفاع صرف هذه الأدوية في الموسمين الماضيين.

عتمة الجائحة

وفي قراءته التحليلية لسوق الدواء المغربي في مجال الأمراض النفسية والعقلية، قال عبد المجيد بلعيش، خبير في اقتصاد الأدوية ومحلل أسواق الأدوية، إن “الاستهلاك المغربي، مع ذلك، يظل منخفضا بالمقارنة مع البلدان الأخرى؛ وهو ما مرده إلى ضعف القدرة الشرائية، وغياب التغطية الصحية لدى ثلث المغاربة”.

وذكر بلعيش، في تصريح أدلى به لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “كلفة الطبيب النفسي تصل إلى 400 درهم للجلسة الواحدة، بينما لا تقل قيمة الوصفة الطبية عن 500 إلى 1500 درهم”، موردا أن “استهلاك الأدوية ارتفع خلال الحجر الصحي بنسبة تفوق 10 في المائة، حيث لم يكن للجائحة تأثير كبير على الأفراد بقدر ما كانت للحجر الصحي انعكاسات نفسية وخيمة عليهم”.

ويشكل القلق أهم أثر نفسي للحجر الصحي لدى الأسر بنسبة 49 في المائة، حسب تقرير حديث للمندوبية السامية للتخطيط بخصوص تداعيات الجائحة على الوضع النفسي والاجتماعي للأسر، حيث صرحت 25 في المائة من الأسر بتعدد أنواع الرهاب لديها، وشعرت 24 في المائة كذلك باضطرابات النوم، وعانت 8 في المائة من اضطرابات نفسية أخرى؛ وهو ما يفسر تزايد الاستهلاك على أدوية القلق خلال العام الفارط.

نتيجة لذلك، ارتفع عدد الاستشارات الطبية المتعلقة بالأمراض النفسية التي تم إنجازها بمؤسسات الرعاية الصحية خلال سنة 2020، وفقا لمضامين “مشروع نجاعة الأداء” الخاص بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية في قانون المالية لسنة 2022، حيث بلغت ما قدره 115844 استشارة، ويرتقب أن تصل إلى 155430 خلال أواخر سنة 2022، في أفق أن تناهز 188 ألفا سنة 2024.

بيئة موبوءة

الاضطرابات العقلية تجد تفسيرها في البيئة الاجتماعية التي تكون عاملا مساهما في تأزيم الوضعية النفسية للفرد. معطى أكدته لنا فاطمة، ربة بيت بالدار البيضاء رفضت اللقاء معنا في البداية بسبب الخوف من عدوانية ابنها؛ لكنها اكتفت لاحقا بالإدلاء بشهادتها عبر الهاتف فقط، وشددت على أن “ابنها صار مريضا نفسيا نتيجة التنمر المدرسي بعدما اعتدى عليه زملاؤه، قبل أن يرفض ارتياد المدرسة مرة أخرى، ويبدأ في عزل نفسه عن الآخرين”.

هذه النقطة توقفت عندها خديجة الكور، باحثة في علم الاجتماع وفاعلة حقوقية، حيث قالت إن “الصحة النفسية بالمدارس ينبغي أن تصبح أولوية لدى الحكومة، من خلال الانتباه إلى الاضطرابات الذهنية التي تظهر في مرحلة مبكرة من الطفولة بالوسط المدرسي؛ ما يتطلب ضرورة تداركها، وبالتالي علاجها في المؤسسات الصحية المخصصة لذلك”.

فيما اعتبر محسن بنزاكور، باحث في علم النفس الاجتماعي، أن “التربية المبنية على العنف والاحتقار وعدم الثقة في النفس تحسس الفرد بمعاناة داخلية قد تصل إلى درجة الاضطراب”.

وأردف الباحث في علم النفس الاجتماعي: “أكثر من ذلك، التفكير في الانتحار نتيجة عوامل عديدة؛ ضمنها التنمر المدرسي، إلى جانب العلاقات الزوجية غير المتوازنة، وضغط العمل، والوصم الاجتماعي”.

وأضاف علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحياة، الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية إلى العوامل المؤثرة في الصحة النفسية، ليؤكد أن “شريحة كبيرة من المتشردين بالشوارع المغربية تعاني من أمراض نفسية وعقلية؛ ما يجعلها مصدر خطر بالنسبة إلى المارة”.

ومن الاضطراب ما يقتل!

محمد الغوفيري، متقاعد بمدينة الرباط، كادت ابنته أن تصاب بالشلل بعدما رشقها مريض عقلي بحجرة أصابتها على مستوى أسفل الرأس؛ لكنها نجت من الحادثة المفجعة.

وروى محمد الغوفيري لهسبريس عن حيثيات الواقعة قائلا: “كنت قلقا بخصوص وضعيتها الصحية، ولا أنفك من استشارة أفضل الأطباء في المغرب”.

وتابع المتحدث ذاته، وهو يميل رأسه إلى الوراء: “كانت ابنتي على وشك الزواج، ولو أصيبت بعاهة مستديمة لكان الأمر مأساويا، إلا أن المعجزة تحققت بنجاتها”.

وأضاف بصوت صارخ: “الإشكال لا يقف هنا، بل يمتد إلى قطاع التأمين أيضا، حيث صرفت على ابنتي ميزانية كبيرة؛ لكن شركة التأمين لم تعوضني عن الأضرار لأن المعتدي مريض نفسيا”

وقد انتبهت المصالح المختصة بالمديرية العامة للأمن الوطني إلى هذه الظاهرة بتوجيهها مذكرة وطنية إلى عناصرها، قصد التفاعل مع التهديدات التي يطرحها المصابون بالأمراض العقلية في الفضاءات العامة، خصوصا منهم الذين يتعاطون التسول والتشرد والتخدير، بالنظر إلى إمكانية تطور تلك التهديدات إلى ارتكاب أفعال إجرامية، بتعبيرها.

مذكرة أشاد بها عبد الواحد زيات، رئيس الشبكة المغربية للتحالف المدني للشباب؛ لكنه ذكر بأن “المقاربة الأمنية لن تحل هذا الملف الشائك بمفردها، بل ينبغي أن تتدخل كل القطاعات المعنية بالموضوع، لأن الأمن سيعتقل المريض العقلي في الشارع، ثم سيجد صعوبة في وضعه بالمستشفى بسبب الخصاص الحاصل بالبنية الاستشفائية”.

وفي السياق نفسه، دعت خديجة الكور، باحثة في علم الاجتماع، إلى إحداث شرطة متخصصة في المجال الصحي؛ وهو ما عبرت عنه قائلة: “الشرطة ليس لها الحق في ولوج المنازل لأنها فضاء خاص، وبالتالي، إن أرادت الأسرة مساعدة الأمن، عليها إخراج الابن إلى الشارع”.

وزادت بالشرح: “ينبغي أن تخصص إمكانيات خاصة لهذه الفرقة الأمنية لمساعدة عائلات المرضى النفسيين، وكذا ما يتعلق بحالات الانتحار”.

“سفينة المرضى” مثْقوبة

تكاد تغرق “سفينة” عائلات المرضى النفسيين والعقليين وسط لجج اليأس العاتية لولا نصائح الجمعيات المدنية العاملة بالقطاع التي تحول دون انهيارها. مسألة محورية جاءت على لسان إدريس الموساوي، طبيب نفسي ومدير سابق لمركز الطب النفسي بالمستشفى الجامعي ابن رشد في الدار البيضاء، بإشارته إلى أهمية تقديم دعم سنوي لهذه الجمعيات والمنظمات التي تتكفل بتقديم الإرشادات للأسر حول كيفية التعامل مع مرضى الصحة العقلية.

وأكد الموساوي، في تصريحه لهسبريس، أن “النهوض بأوضاع القطاع صعب، لأن ذلك يتطلب مضاعفة الميزانية السنوية بثلاثين مرة أكثر من نظيرتها الحالية، وهو أمر مستحيل”، ثم شرح بأنه “لا يمكن وضع المرضى في المستشفيات طيلة حياتهم، ما يستدعي ضرورة التنسيق مع الجمعيات الصحية المعنية بالمواكبة النفسية”.

لذلك، قال محمد هاشم تيال، نائب رئيس الفيدرالية الوطنية للصحة العقلية، إن “المريض العقلي والنفسي يستحق فرصة ثانية من خلال مساعدته على العلاج حتى يسترجع كفاءاته الشخصية، عبر إيداعه داخل مراكز مختصة في التأهيل السيكولوجي-الاجتماعي”، ثم أضاف أن “الأسر بحاجة إلى المواكبة المستمرة لكي تتواصل بشكل جيد مع المرضى”.

فؤاد مكوار، رئيس الجمعية المغربية للدعم والربط وتأهيل عائلات المصابين بأمراض نفسية، صرح بدوره بأن “العلاج البيولوجي عن طريق الدواء غير كاف، بل لا بد من التركيز أيضا على العلاج النفسي من خلال الورشات العلاجية، بما يشمل الطبخ والرسم والرياضة والدردشة”.

وذكر المتحدث بأن “الجمعية تنظم دورات تكوينية على مدار السنة لعائلات المرضى النفسيين والعقليين بالمغرب، حيث يتم تجميع الأسر في حصص تدريبية بالرباط والدار البيضاء ومراكش لإطلاعها على آثار الأدوية، وطرق التواصل مع المرضى من أجل إخراجهم من دوامة القلق الناجم عن العلاج”.

“مارستانات” على حافة الهاوية!

واقع صعب تكابده العائلات، ومعها المرضى، في ظل الاكتظاظ الشديد الذي تعرفه مشافي الصحية العقلية بالمغرب. ومن أجل معرفة الإكراهات المحيطة بهذه المؤسسات الصحية، حاولت هسبريس زيارة “مستشفى الرازي” للطب النفسي ببرشيد؛ غير أن مديره بقي “يماطل” بشأن ذلك من خلال التأجيل المتكرر لموعد الزيارة المبرمجة. مصادرنا داخل المستشفى أرجعت تردده إلى “الأوضاع المأساوية” داخله، حيث كان موضوع شكايات العديد من الأسر بسبب “هروب” المرضى.

وبالفعل، فقد كان مستشفى الأمراض العقلية والنفسية ببرشيد، إلى جانب مستشفى مراكش ومستشفى سلا، وجهة لـ”نواب الأمة” الذين قاموا بزيارته خلال سنة 2021، قصد الوقوف على الاختلالات التسييرية والصحية المطروحة.

مصدر مطلع داخل المهمة الاستطلاعية أفاد بأن “الوضعية كارثية” بهذه المستشفيات، دون أن يكشف حيثيات الزيارات بسبب عدم إصدار التقرير النهائي؛ لكنه شدد على أن القطاع الوزاري مطالب بتشييد مؤسسات استشفائية جديدة بعيدا عن “نموذج السجون”.

لذلك، دعا عبد الواحد زيات، رئيس الشبكة المغربية للتحالف المدني للشباب، الفاعلين العموميين والخواص إلى “التعبئة الوطنية من أجل بلورة سياسة جديدة تضمن حق المواطن المغربي في الصحة النفسية والعقلية، والنهوض بالصحة النفسية والعقلية للسكان، وجعلها من الأولويات الرئيسية لمجموع السياسات العمومية والترابية”، كاشفا “إهمال الملف من طرف الأحزاب السياسية خلال الاستحقاقات الانتخابية الماضية، وعدم إيلائه الأهمية المنشودة من لدن الحكومات السابقة”.

وخلال إعداد التحقيق، لاحظت هسبريس أن التشريع المغربي في مجال الصحة النفسية والعقلية ظل “جامدا” منذ سنة 1959، حيث يتعلق الأمر بـ”الظهير الشريف” رقم 1.58.295؛ ما يجعله متجاوزا بالنظر إلى التقدم المحرز على الصعيد العالمي في مجال حقوق الإنسان، والتطور العلمي في مجال الطب النفسي وعلاج الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية.

وقد حاول الحسين الوردي، وزير الصحة السابق، اعتماد مشروع قانون جديد لمكافحة الاضطرابات العقلية (يحمل رقم 71.13) سنة 2016؛ لكنه لقي معارضة شديدة من قبل الأطباء نتيجة العقوبات السجنية الواردة فيه.

جدران الصمت

التأخر في اعتماد مشروع القانون سالف الذكر أثار “امتعاض” المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي نبه إلى التأخر الحاصل بخصوصه منذ 2016. وفي تقريره السنوي حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب لسنة 2019، أكد المجلس أن “القانون الحالي (1959) لا يواكب التطورات المجتمعية، وهو ما ينجم عنه المس بحقوق هذه الفئة”، مسجلا أيضا “عدم كفاية البنيات المخصصة لإيواء هذه الفئة، وعدم كفاية طاقتها الاستيعابية، ووجود خصاص على مستوى الطاقم الطبي والموارد البشرية والتجهيزات، وضعف الخدمات المقدمة للنزلاء”.

المعطى نفسه تتقاسمه معنا خديجة الكور، باحثة في علم الاجتماع، بإيرادها أن “الإطار القانوني المتقادم يحول دون مسايرة المعايير الدولية للاستشفاء من الأمراض العقلية والنفسية”، معتبرة أنه “سيكون من الأفيد طرح سؤال التغطية الصحية المرتبطة بهذه الأمراض خلال النقاشات المتصلة بمراجعة نظام الحماية الصحية”، لافتة إلى أهمية “الاستثمار في التكوين ومساعدة الأسر على تحمل الكلفة الباهظة للأدوية”.

فريق الاستطلاع التابع للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أوصى، في تقرير سابق بشأن الموضوع سنة 2012، بوضع سياسة للصحة العقلية وتفعيلها، عبر وضع ميزانية خاصة بالصحة العقلية تبعا لمتطلباتها الخاصة، وإحداث مصالح للطب النفسي في المستشفيات العمومية التي لا تتوفر عليها، وإحداث بنية دائمة خاصة بصيانة التجهيزات، وإعادة انتشار الموارد البشرية، وتعزيز مؤسسات الطب النفسي بعلماء نفس سريريين، وتشجيع البحث في شتى جوانب الأمراض العقلية وآثارها.

بعد مضي عشر سنوات على التقرير، ما زال واقع الصحة العقلية يطرح تساؤلات كثيرة بسبب “الوضعية المقلقة” للمستشفيات العمومية. وفي ظل غياب سياسة عمومية للصحة العقلية بالمغرب، أصبحت “المارستانات” أشْبه بـ”المعتقلات”. هي بالنسبة إلى الأطقم الصحية عبارة عن “معتقلات اختيارية”؛ لكنها بالنسبة إلى المرضى بمثابة “معتقلات إلزامية”.. لا أحد راض عن الوضع القائم، ليبقى سؤال الأفق معلقا على جدران الصمت الطويل.

الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى
أقراء أيضا
افضل 40 تطبيق أندرويد مجانا بأداء خرافي

المصدر : منتوف ومواقع انترنت 👇الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى


الصحة العقلية والنفسية بالمغرب.. “رحلات استشفاء” تُعمق جراح المرضى