أيام الست فى «طماى الزهايرة»

أيام الست فى «طماى الزهايرة»

Share on facebook
Share on twitter
Share on telegram
Share on pinterest
Share on email
Share on whatsapp

أيام الست فى «طماى الزهايرة»

🐇 أيام الست فى «طماى الزهايرة»
#أيام #الست #فى #طماى #الزهايرة

أيام الست فى «طماى الزهايرة»

 

كان والد أم كلثوم منشدًا دينيًا دخله لا يزيد على عشرين قرشًا فى الشهر

أمها فلاحة مصرية اسمها «فاطمة المليجى» وأبوها الشيخ «إبراهيم البلتاجى»

فرضت حياة القرية نفسها عليها فالتزمت بالأغانى الدينية وبلبس «العقال»

أول مرة نزلت القاهرة سرق منها «النشالون» خمسة عشر جنيهًا فأصيبت بالصدمة

تعرضت للسخرية فى أول مناسبة غنت فيها فى القاهرة ثم أبهرت الحاضرين بغنائها

جاء قرار مبادرة «حياة كريمة» بترميم منزل أم كلثوم فى قرية «طماى الزهايرة» وتحويله إلى متحف.. وتعويض الورثة بمنزل بديل.. ليؤكد اهتمام الجمهورية الجديدة برموز الفن المصرى الذين حاول التطرف أن يهيل عليهم التراب.. وتشير المؤشرات إلى أن المنزل سيتحول لمركز ثقافى يرعى المواهب فى الدلتا.. ولنقطة تنوير جديدة من النقاط الجديدة التى تحرص الدولة على إضاءتها فى قرى مصر المختلفة بقدر الإمكان.. بهذه المناسبة نعيد نشر دراسة نقدية وصحفية نشرها الكاتب الكبير رجاء النقاش عن «أم كلثوم» فى بداية الستينيات وضمنها كتابه «لغز أم كلثوم».

41108-293404674_426714676152492_9150556395192449232_n

عندما ولدت أم كلثوم كانت عبئًا على أبيها الذى كان يكسب بالتعب والعرق عشرين قرشًا فى الشهر، وبعد سنوات أصبح عبء أم كلثوم نعمة على شعب بأكمله.. فقد أصبحت جزءًا من وجدان هذا الشعب. فما هو سر أم کلثوم؟.. ماذا وراء لغزها الكبير؟ كيف نشأت هذه العبقرية ثم انطلقت كالصاروخ من أعماق القرية المصرية؟ كيف قطعت هذه الرحلة الطويلة فى حياتها وحياتنا.. منذ أن كانت تتقاضى فى الحفلة مليمًا واحدًا، إلى أن أصبحت تكسب فى حفلاتها كل ما فى القلوب من عواطف على طول الأرض العربية وعرضها؟

«فى الساعة العاشرة ليلة أول كل يوم خميس فى الشهر يحدث شىء غريب فى الشرق الأوسط.. يهدأ الضجيج فى شوارع القاهرة فجأة.. فى الدار البيضاء التى تبعد ٢٥٠٠ ميل إلى الغرب، يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهى.. وفى بغداد التى تبعد ٨٠٠ ميل إلى الشرق يحدث نفس الشىء.. الكل أذهانهم مشغولة بشىء آخر.. وبين هذين الحدين الجغرافيين على طول الصحراء وعرضها يأوى الأعراب إلى خيامهم.. الكل ينتظرون برنامجًا معينًا يذيعه راديو القاهرة، مدة هذا البرنامج خمس ساعات، يذاع ثمانى مرات فى السنة ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم».

ام كلثوم 00 (11)

هذه الكلمات خرجت بها فى يونيو سنة ١٩٦٢ مجلة «لايف» الأمريكية فى تحقيق صحفى أعدته فى صفحاتها الأولى عن أم كلثوم، وكان كاتب هذا التحقيق هو مراسل المجلة فى الشرق الأوسط «جوردون جاسكيل».. وقال المراسل الأمريكى فى تحقيقه الصحفى:

هنا فى الشرق الأوسط شيئان لا يتغيران.

وقد أراد المراسل فى هذه العبارة الماكرة أن يقول إن الشرق الأوسط ملىء بالتقلبات السياسية والفكرية وإن أرسخ ما فيه: هو صوت أم كلثوم والأهرام، فهما لا يتعرضان لأى تغير فى مركزهما وقیمتهما واهتمام الناس بهما. 

وكان إحساس المراسل الأمريكى إزاء صوت أم كلثوم صادقًا.

فمنذ أن كانت أم كلثوم صبية صغيرة أثناء الحرب العالمية الأولى.. منذ ذلك الحين وأم كلثوم تصعد إلى عرش الفن دون أن تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء، بل ودون أن تكتفى بالتطور الهادئ.. لأنها كانت على الدوام تقفز إلى الأمام فى سرعة الصواريخ.

وقصة حياة أم كلثوم لا تقل عظمة وروعة عن قصة فنها الرفيع.

ام كلثوم 00 (9)

وكانت بداية القصة فى الريف المصرى، لقد ولدت فى قرية «طماى الزهايرة»، وكانت أمها فلاحة اسمها «فاطمة المليجى»، أما أبوها الشيخ «إبراهيم البلتاجى» فكان إمامًا لمسجد القرية، كان يقرأ القرآن فى الموالد ويغنى بعض التواشيح والقصائد الدينية، وجملة دخله فى الشهر كانت لا تزيد على عشرين قرشًا، وفى هذا البيت الدينى الفقير نشأت أم كلثوم، وكان السبب فى اختيار اسمها سببًا دينيًا أيضًا.. فقد أراد والدها أن يتبرك بالنبى، عليه السلام، فسماها على اسم بنت من بناته.

وهكذا، خرجت أم كلثوم من القرية المصرية.. شأنها فى ذلك شأن الكثيرين من عظماء تاريخنا الحديث فى ميدان السياسة والدين والأدب والفن. فقد نشأ معظم هؤلاء فى القرية المصرية، وخرجوا من بين الفلاحين المصريين، فعرابى كان فلاحًا من قرية «هرية رزنة»، ومحمد عبده كان فلاحًا من قرية «محلة نصر» وسعد زغلول كان فلاحًا من قرية «إبيانة». وعبدالناصر فلاح من «بنى مر» وطه حسین فلاح من إحدى قرى الصعيد.

ام كلثوم 00 (7)

إن القرية المصرية هى المنجم الذى ضم بين جوانحه معظم الكنوز البشرية فى حياتنا وتاريخنا الحديث كله.

ومن هذا المنجم خرجت أم كلثوم، وهى تصف لنا قريتها فى بعض أحاديثها فنحس من هذا الوصف برائحة ترابها وحواریها وأزقتها، وندرك تمامًا أنها قرية صغيرة قابعة فى أعماق الريف، وليس لها أى علاقة بالمدينة من قريب أو بعيد.

تقول أم كلثوم فى وصف قريتها، التى تشبه جميع القرى فى مصر وخاصة قبل الثورة: «كنا نعيش فى قريتنا الصغيرة (طماى الزهايرة)، مركز السنبلاوين، وهى قرية متواضعة، أعلى بيت فيها لا يزيد على طابقين، وأكثر مظهر للثراء فيها عربة حنطور يركبها العمدة وبضعة طرق ضيقة أخرى تسع لمرور حمير الخفراء وشيخهم، وكنت أغنى فى القرى المجاورة، وكانت كلها قرى صغيرة وكنت أحسب أن مركز السنبلاوين هو أكبر مدينة فى الدنيا».

على أن صلة أم كلثوم بالريف المصرى وبالفلاحين المصريين ليست محدودة بمجرد الميلاد، ولا لأنها غنت فى عدد من القرى هنا أو هناك.. كلا.. لقد عرفت أم كلثوم ريف مصر كله، ومشت فى سككه الزراعية المليئة بالتراب، وعرفت كل شىء عنه قبل أن تخطو بقدميها إلى القاهرة، ولذلك فهى تقول: «لقد مسحت بقدمى الصغيرتين القطر المصرى كله قرية قرية قبل أن أنتقل إلى القاهرة».

ام كلثوم 00 (4)

وهكذا لم تتعلم أم كلثوم فى مدرسة ولا فى جامعة، بل تعلمت فى الحوارى والأزقة والأجران، وتتلمذت على الذوق المصرى العربى فى أبسط صورة وأصدقها.. وتتلمذت على ذوق الفلاحين المصريين الذين طحنتهم الأيام، وواجهوا الدنيا بصبر وعمل بلا حدود.

وليس من المبالغة فى شىء أن نقول إن الصبية الصغيرة النابغة أم كلثوم كانت البلسم الشافى لجراح المصريين بعد الأيام الحزينة السود التى مرت بمصر خلال سنوات ١٩١٤/ ١٩١٨، وهى أيام الحرب العالمية الأولى، ففى تلك الفترة كان المصريون يُساقون إلى الحرب بطريقة مؤلمة، ولم تكن هناك عائلة فى الريف المصرى لم تمسها هذه الجراح بشكل من الأشكال، وكانت الصبية الصغيرة أم کلثوم بأناشيدها الدينية وتواشيحها القديمة هى المواساة الحقيقية للشعب، ولعل هذه الصورة التى يرسمها لنا المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى تبين لنا قيمة المواساة التى قدمتها الفنانة الصبية للشعب دون أن تدرى ذلك أو تفهمه.. يقول الرافعى عن هذه السنوات المظلمة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهى نفس الفترة التى بدأت أم كلثوم- فى أواخرها- تجوب البلاد طولًا وعرضًا وتملأ بالمتعة والسعادة قلوب الفلاحين:

ام كلثوم 00 (1)

«لقد جندت السلطة العسكرية العمال فى مختلف أرجاء البلاد لاستخدامهم فى أعمال الجيش البريطانى، وبلغ تعدادهم نيفًا ومليون مصرى، وكانوا يؤخذون کرهًا باسم المتطوعين، وما هم بمتطوعين، ويعاملون معاملة المعتقلين، ويجرّون بالحبال ويساقون كالأغنام ويقام عليهم الحراس، وينقلون بالقطارات فى مركبات الحيوانات، ويعاملون أسوأ معاملة ولا يُعنى بصحتهم ولا بغذائهم وراحتهم.. ومات كثيرون منهم فى ميادين القتال، أو فى صحراء سيناء والعريش أو فى العراق وفرنسا، وأُصيب كثير منهم بالأمراض والعاهات التى جعلتهم عاجزين عن العمل، واجتمعت إلى تلك المظالم مظالم أخرى بما لجأت إليه السلطة العسكرية، من مصادرة الناس فى أرزاقهم وحاصلاتهم الزراعية ومواشيهم ودوابهم، فقد استولت عليها بأبخس الأثمان وبأسعار تقل كثيرًا عن أسعارها فى الأسواق، وفرضت على كل مركز من مراكز القطر المصرى مقدارًا معينًا من الحبوب يورده إلى الجيش بهذا السعر البخس، فكان الأهالى يطلب منهم فى بعض الأحيان أكثر مما عندهم، فيضطرون تحت تأثير الضغط إلى شراء ما يطلب منهم بأسعار السوق، ويقدمونه كرهًا بالسعر البخس».

هذا ما كتبه المؤرخ عبدالرحمن الرافعى فى وصف أحوال مصر عندما كانت أم کلثوم فى صباها الأول.

245505-منزل-أم-كلثوم-بالدقهلية--(1)

وفى هذا الجو الحزين كانت «أم كلثوم» تمسح قرى مصر، بحثًا عن رزقها ورزق أسرتها، فى مقابل ما تقدمه من فن إلى جماهير الفلاحين.. وكانت تذهب إلى هذه القرى المختلفة، إما مشيًا على قدميها، وإما راكبة على ظهر حمار، وإما فى عربة من عربات الدرجة الثالثة فى قطارات الدلتا القديمة وما يشبهها.

وهكذا كانت أم كلثوم منذ اللحظة الأولى فى حياتها تلعب دورًا سياسيًا وإنسانيًا فى حياة الفلاحين. وكانت بالتأكيد تلعب هذا الدور دون أن تدرى أنها تقوم به، وأنها تخفف عن الفلاحين آلامهم ومأساة حياتهم فى ظل الحرب والإنجليز، كل ما كانت تدريه هو أنها تطيع أباها وتساعده فى الحصول على رزقه ورزق الأسرة.

وكانت حياة القرية تفرض نفسها وتقاليدها على أم كلثوم فى اختيار أغانيها الدينية من ناحية، وفى اختيار ملابسها التى كانت تظهر بها فى حفلاتها المختلفة من ناحية أخرى، لقد كانت تلبس العقال حتی تبدو كالرجال، فلم يكن من السهل أن تقف فتاة وتغنى بين الفلاحين دون أن يصيبها رذاذ من الاتهامات الخلقية، ومن ينظر إلى صورة أم كلثوم «الصبية» مع أخيها خالد، يحس أن والدها وأهلها كانوا يحاولون أن يخفوا وراء ملابسها كل مظاهر الأنوثة.. حتى لا يكون هناك حرج وهى تقف وسط الرجال لتغنى.

ووصلت سمعة أم كلثوم إلى القاهرة، بعد أن تمت غزوتها المنتصرة لكل القرى المصرية، وجاءت أم كلثوم إلى القاهرة أول مرة لتغنى فى بيت «عز الدين يكن بك» بحلوان، وعندما رآها «البك» استهان بها ولم يقتنع بمظهرها، ولا بأن هذه الفتاة الصغيرة قادرة على الغناء «فركنها» فى البدروم، واستعان بالشيخ إسماعيل سكر ليحيى له حفلته، وفى آخر الحفلة نادى أم كلثوم ليجربها، فإذا بأم كلثوم تهز الحاضرين بصوتها.. وعلى رأس الذين اهتزوا «الشيخ إسماعيل سکر» نفسه، فأخذ يشجعها ويدعوها إلى الإعادة والتكرار، ثم عادت أم كلثوم إلى القرية من جديد.

وبعد ذلك جاءت إلى القاهرة سنة ١٩٢٣ لتقيم بها وتستقر فيها.

وفى هذه المرة وقعت لها حادثة مما كان يقع عادة للفلاحين البسطاء كلما جاءوا إلى القاهرة، فقد سرق لص منها «تحويشة العمر» وكانت تبلغ ١٥ جنيهًا، وقد أُصيبت أم كلثوم بعد الحادثة بالصدمة الأولى للمدينة.. أصابها ما يُصيب أى فلاح طيب ساذج ينزل إلى المدينة الكبيرة لأول مرة، فيحتال عليه المحتالون ويسرقونه بطريقة أو بأخرى ويستغلون طيبته وجهله بما فى المدينة من فهلوة ونصاحة، وقد صور نجيب الريحانى بعد ذلك هذا النموذج كثيرًا فى شخصية «کشکش بك»، العمدة الريفى الذى كان يحضر إلى المدينة بعد أن يبيع القطن.. فيدفع معظم أمواله للمحتالين والمحتالات ويعود مفلسًا خاوى الوفاض إلى قريته!.

ولم تنس أم كلثوم هذه الحادثة بعد ذلك، وقد ذكرتها مرارًا فى أحاديثها الصحفية، لأنها تمثل «الطعم الأول» المر للمدينة الكبيرة فى إحساس فلاحة بسيطة هاجرت من القرية.

وفى المدينة الكبيرة- القاهرة- لم تلبث أن أثارت الانتباه، فأقبل عليها الجمهور ليستمع إلى صوتها الرائع، واهتمت بها على وجه الخصوص أسرة معروفة كبيرة من أسر القاهرة هى أسرة عبدالرازق التى لمع منها فى حياتنا الفكرية اثنان هما: مصطفى عبدالرازق وعلى عبدالرازق.

واستفادت أم كلثوم من ارتباطها فى البداية بهذه الأسرة، ولست أعنى بهذه الفائدة ما حاوله أفراد الأسرة ذات النفوذ- فى ذلك الوقت- من أن يفتحوا أمامها مجالات العمل، بل أعنى الفائدة الفطرية، لقد ساعدتها هذه الأسرة على تحديد اتجاهها فى تلك الفترة المليئة بالاتجاهات الفكرية المضطربة، فقد واجهت أم كلثوم ولا شك فى بداية حياتها بالقاهرة عدة أسئلة مختلفة: فهل تظل ملتزمة فى غنائها بالأسلوب القديم، تغنى وحولها بعض المشايخ ينشدون وراءها كما كانت تفعل فى القرية وفى بداية عهدها بالقاهرة؟ أم تتبع الأساليب العصرية فى الغناء المرتبط بألحان محددة مدروسة؟

255664-منزل-أم-كلثوم-بالدقهلية

وكان السؤال بعبارات أخرى:

هل تظل فى فنها شرقية مائة فى المائة؟ أم تبحث عن أسلوب غربى مائة فى المائة؟

وكانت هذه الأسئلة هى نفسها ما يواجه كل فنان فى بلادنا فى تلك الفترة المضطربة بالذات.. سواء أكان هذا الفنان شاعرًا أو موسیقارًا أو مطربًا أو كاتب قصة.

وساعدتها أسرة عبدالرازق على أن تجد الحل الصحيح، فكثيرون من أبناء الأسرة كانوا يلبسون العمامة ويتحدثون باللغات الإفرنجية الفصيحة، كان مصطفی عبدالرازق مثلًا شيخًا معممًا، ومع ذلك فقد تلقى دراسته فى باريس وأتقن اللغة الفرنسية، وظل بعد عودته محافظًا على زيه الخاص، رغم أن عقله كان قد ارتبط بالثقافة الغربية واستفاد منها الكثير.

وخلاصة الموقف الذى كانت تمثله أسرة عبدالرازق يقوم على الجمع بين الشرق والغرب فى كيان واحد، هو المحافظة على القديم وتقبل الجديد فى نفس الوقت، وهو المزج الأصيل الصادق بين العمامة والقبعة.

وهكذا فعلت أم كلثوم، لم تتخل عن أساليب الفن الشرقى نهائيًا، بل احتفظت بأصول هذا الفن وتقاليده وأضافت إليه وجددته.

وبدأت أم كلثوم هذه المحاولة فى الجمع بين القديم والجديد بداية شكلية، فخلعت العقال الذى كانت تلبسه فى حفلاتها، وذهبت إلى الحفلات وهى تلبس الفساتين، ومع ذلك فلو أتيح لك أن تراها فى تلك الفترة- حوالى سنة ١٩٢٦- لوجدتها ما زالت كما كانت «محتشمة متحفظة»، وكأنها ما زالت تلبس عقالها القديم، ويمكننا أن نراها فى هذه الفترة بعين الناقد الفنى الصحفى جورج طنوس الذى كتب عنها فى ذلك الحين يقول:

«.. محتشمة فى ملابسها كأنها تريد أن تقول أنا مغنية لا ممثلة، ومغنية لا كسائر المغنيات، فى وجهها معانى التفكير، والألم، أكثر مما فيه من معانى الفرح والابتهاج وفى وجهها جمال لا أستطيع وصفه.. أهو عربى؟.. أم يونانى.. أم مصرى عصرى؟ أم فرعونى؟ هى فى ربيع حياتها، فلماذا تتعجل الخريف؟ لا أدرى! هى غصن أملد مثقل بالزهور، ولكنها تريد أن تظهر كشجرة تين فى الشتاء.. جرداء من كل ورقة خضراء.. إن الحياة تبتسم لها، ولكنها لا تبادلها البسمات، هى روح ثائرة متبرمة لكن ثورتها داخلية لا تعدو فؤادها الخفاق».

هذه هى صورة أم كلثوم فى ذلك الوقت، صورة الألم الذى اعتصرها، وصورة الإخلاص الذى حملته فى قلبها من أيامها فى الريف، وصورة الإحساس العميق بالحياة كأى فلاحة حساسة متفتحة الشعور والوجدان.

لقد تخلصت من العقال، أى من ملابسها التى فرضتها عليها روح الحشمة والتحفظ فى القرية ولبست ملابس المدينة، ولكن هذا كله لم يغير جوهرها فقد ظلت كما هى فلاحة متحفظة، مخلصة متفانية فى عملها الفنى، لا تنظر إلى شىء ولا تهتم بشىء أكثر من نجاحها الفنى.

ولو نظرنا إلى أم كلثوم اليوم، بعد رحلتها الطويلة العظيمة المنتصرة فى عالم الفن، لوجدنا أنها ما زالت تميل إلى المحافظة والحشمة فى ملابسها التى تظهر بها فى حفلاتها وفى غير حفلاتها- رغم أناقتها الشديدة- ولا شك أن هذه الروح المتحفظة قد ترسبت فى أعماقها من «الفلاحة» القديمة أم كلثوم.

وهكذا حافظت «أم كلثوم»- من الناحية الشكلية- على الجمع بين القديم والحديث، فلبست الفساتين العصرية ولكنها لم تتخلص من روح الريف وتقاليده وعاداته.. وحشمته.

على أن هذا الجانب الشكلى ليس هو المهم فى التغير الذى حدث لأم كلثوم فى تلك الفترة بعد أن استقرت فى القاهرة.. فقد كان التغير الفنى أعمق وأهم وأكثر دلالة.

وكان التغير الكبير الذى حدث فى حياتها منذ سنة ١٩٢٣ هو مصاحبة الآلات لها فى الغناء، وكان هناك من يعارضون فى تنفيذ هذه الفكرة التى دعاها إليها بشدة الأستاذ مصطفی رضا، وكان من بين المعارضين لهذه الفكرة والدها الشيخ «إبراهيم» والشاعر أحمد رامى.. لقد كانا يصران على أن تغنى بالأسلوب القديم حيث تغنى ومن ورائها التخت الشرقى المعروف.

ولكن الفكرة الجديدة انتصرت، وبدأت أم كلثوم تغنى بمصاحبة الآلات الموسيقية، وكانت تجربتها الأولى فى هذا الميدان تتمثل فى قصيدة لـ«على الجارم» مطلعها:

مالى فتنت بلحظك الفتاك

وسلوت كل مليحة إلاك..

واستمرت أم كلثوم تطور فنها حتى استطاعت أخيرًا أن تصل إلى طريقتها الحالية فى الغناء، وهى الطريقة التى تجمع بين الجديد والقديم معًا. إنها تجمع بين الأسلوب الشرقى القديم والأسلوب العصرى الحديث.. لم تتخل عن القديم ولكنها لم تستسلم له فى نفس الوقت.

وصِلة أم كلثوم بالتقاليد الفنية القديمة تعود إلى أيام ارتباطها بأستاذها الأول «أبوالعلا محمد».. كما يعود ارتباطها بالتقاليد الفنية الجديدة إلى سلسلة طويلة من الملحنين مثل: السنباطى، والطويل، والموجى، وبليغ حمدى، وأخيرًا عبدالوهاب.

وقصة أستاذها الأول: أبوالعلا محمد قصة إنسانية وفنية رائعة، لقد عرفها الشيخ «أبوالعلا» منذ صباها وتعلق بها بعد أن استمع إليها وأدرك ما يحمله صوتها من إمكانات العبقرية الفنية.

وكان الشيخ «أبوالعلا» فنانًا كبيرًا وموسيقارًا لامعًا، وإن لم نكن نعرف عنه كثيرًا الآن، وكان يفهم بعمق أصول الفن الشرقى وقواعده.. وقد أخذ على عاتقه أن يعلم أم كلثوم، وأحبته أم كلثوم وتعلقت به، وكانت تستمع بشغف إلى تواشیحه الدينية وإلى أغنياته العاطفية التى كان يعتمد فيها على قصائد الغزل المعروفة فى الشعر العربى مثل: 

أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا.

ومثل:

وحقك أنت المنى والطلب.

ومثل:

غيرى على السلوان قادر.

وتتحدث أم كلثوم عن أستاذها الشيخ أبوالعلا فتقول:

«كان الشيخ أبوالعلا من أعظم الموسيقيين العرب، وكان غزير العلم، رقيق الشعور، وقد أتم ما بدأه الأولون وحافظ على التقاليد الموسيقية العتيدة التى وضعها الأساتذة القدماء وكان آخر تلك السلسلة المرحوم عبده الحامولى- الذى توفى سنة ١٩٠١- فاحتل الشيخ أبوالعلا مكانه إلى أن توفى سنة ١٩٢٧».

ولا بأس أن نستطرد قليلًا مع أم كلثوم، وهى تصف لنا الأيام الأخيرة للشيخ أبوالعلا فتقول:

«كان فى أيامه الأخيرة مريضًا بالشلل فتعذر عليه أن يلحن أو يغنى، وعندما كنت أذهب لزيارته أنظر إليه وأنا مكتوفة الأيدى لا أستطيع شيئًا أمام عذاب الرجل الذى أحب الغناء والموسيقى والطرب وأوجد ألحانًا ساحرة».

وعندما مات الشيخ أبوالعلا سارت أم كلثوم فى جنازته وراء نعشه.. وكان منظرها عجيبًا فى ذلك العصر، فلم يكن من المألوف أن تسير امرأة وسط الرجال فى جنازة تمشى فى شوارع المدينة!

ويمثل إخلاص أم كلثوم للشيخ أبوالعلا ووفاؤها له حقيقة شعورها نحو التقاليد الموسيقية الشرقية فى صورتها الأصيلة الجادة، لقد درست أم كلثوم هذه الموسيقى على يد ذلك الفنان الشيخ دراسة واعية، وأحبتها وفهمتها بعمق، بل واستطاعت أم كلثوم أن تحفظ عن طريق الشيخ أبوالعلا أدوارًا كثيرة لمحمد عثمان، وعبده الحامولى، ويوسف المنيلاوى، وللشيخ «أبوالعلا» نفسه، الذى كان يلحن لها كثيرًا من أغانيها فى البداية.

وأم كلثوم من هذه الناحية أيضًا تعتبر ثروة فنية وتاريخية رائعة.. لأنها تحفظ ما لا يحتفظ به «أرشيف» ولا تحتفظ به ذاكرة إنسان، ولست أدرى لماذا لم تحاول أم كلثوم تسجيل ما تحفظه من ألحان وأغانٍ قديمة.. إنها لو فعلت ذلك فسوف تساعدنا على أن نحتفظ بثروة من تاريخنا الفنى لا يمكن تعويضها على الإطلاق.. ولم يكن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة غيرها هى بالذات.

ولا شك أن ارتباط أم كلثوم بتراثنا الفنى هو الذى دفعها إلى الاهتمام بالأغانى الدينية. إنها بعد أن جاءت إلى القاهرة لم تنس أنها قد خرجت من القرية المصرية، وأنها حفظت القرآن، وأن تاريخنا الفنى ملىء بالتواشيح والأغانى الدينية، وأن المشاعر الدينية جزء أساسى من مشاعر الشعب، ولذلك فقد اختارت بنفسها قصائد شوقى الدينية لتغنيها.. وروى محمد على حماد، الناقد الذى عاصر اختيار أم كلثوم لهذه الأغانى الدينية، أن هذا الاتجاه عند أم كلثوم قد لقى المعارضة من أصدقائها، «فقد خافوا أن يكون هذا أول فشل يصادف الفنانة العظيمة التى لم تعرف فى حياتها إلا النجاح والفوز.. ولكنها أصرت، وإن كانت معارضة الصفوة من أصدقائها قد زلزلت إيمانها بعض الشىء، ولكنها تحدت.. ونجحت».

ولقد كانت أم كلثوم على صواب فى اختيارها هذا اللون من الأغانى الدينية، لأنها تعرف أن المشاعر الدينية عند الشعب أصيلة.

ورغم أن أم كلثوم استطاعت أن تصل إلى قلب الجماهير فى القاهرة بسهولة إلا أنها وجدت بعض العناء والمقاومة فى الحياة الفنية، بل لقد دخلت معارك كبيرة مع منيرة المهدية، وكانت منيرة هى التى بدأت المعركة وأشعلتها ضد أم كلثوم، وقد تألمت «أم كلثوم» من هذه المعركة ولكنها خرجت منتصرة.

وكان من أثر هذه المعركة أن النقاد المناصرين لمدرسة منيرة المهدية أخذوا يشنون غارات نقدية ضد أم كلثوم فى البداية، ومن أقوال هؤلاء النقاد فى تلك الفترة: إن «أم كلثوم» ترسل الغناء إرسالًا بغير قطعة من قطع الطرب تمهد لها سبيل الأنغام. ومن أقوالهم أيضًا: «إنه زيادة على حسن الصوت ورخامته يوجد شىء اسمه الفن، وأم كلثوم تسير مع طبيعتها فقط وهذا لا يكفى فى الواقع لكى يكون فنًا»، ومن أقوالهم كذلك: «إن فى صوتها جفافًا ملموسًا تنفر منه الآذان».

ولم تقتصر محاربة أم كلثوم فى بدايتها على أقوال هؤلاء النقاد، ولكن الحرب امتدت إلى أكثر من ذلك وأخطر، فقد كتبت إحدى المجلات فى هذه الفترة، حوالى سنة ١٩٢٦- تقول:

«لقد بلغ من خصومة السيدة منيرة للآنسة أم كلثوم أنها سمعت مرة أن أحد مستأجرى الحفلات أنه قد أجر مسرح برنتانيا لإحياء حفلة للآنسة أم كلثوم، وكان خاليًا فى تلك الليلة، لأن فرقة السيدة منيرة المهدية كانت ستسافر لإحدى مدن القطر فألغت السيدة منيرة الحفلة التى كانت ستحييها فى السفر، وفضلت أن تبقى فى القاهرة حتى لا تترك المسرح خاليًا لأم كلثوم».

هكذا بصراحة أعلنت منيرة المهدية الحرب على أم كلثوم، ولكن التطور الفنى كان فى مصلحة أم كلثوم فخرجت من هذه المعركة منتصرة، وكان انتصارها سريعًا وساحقًا.. وكان السلاح الأساسى لأم كلثوم فى هذه المعركة هو أنها تعتمد على موهبتها فقط، ودربت نفسها تدریبًا قاسيًا إلى أبعد حد. وقد قال أحد النقاد المحايدين عن منيرة المهدية فى ذلك الحين:

«كثيرًا ما تستمع إليها فتلمس الاختلاف بين ما تنشده وتعزفه الموسيقى، وهذا أوضح عيوبها. وإذا كانت لا تستطيع إصلاحه فمرجع هذا إلى الطبيعة وإلى ما أخذت به السيدة منيرة نفسها من الإهمال وعدم التدرب الصحيح على أيدى أساتذة الفن».. وقارن ناقد آخر بين أم كلثوم ومنيرة المهدية فقال: «إن منيرة صوت جميل بلا فن، ولكن أم كلثوم صوت تساعده أذن موسيقية مرهفة ذواقة نقادة وعلى علم بأصول فن الموسيقی».

وهكذا كانت منيرة المهدية موهبة بلا دراسة، أما أم كلثوم فهى موهبة مقترنة بالدراسة العميقة الواعية. لذلك كان النصر من نصيب أم كلثوم منذ البداية، لأنها لم تتهاون لحظة واحدة فى تعليم نفسها.. لقد كانت تعرف ما يتطلبه فنها من جهد كبير صعب. ولم تلبث الأصوات التى ارتفعت بالهجوم عليها أن خفت ثم تلاشت.. وانتهى بذلك عصر منيرة المهدية، عصر الارتجال، والموهبة التى لم تنظمها الدراسة ولم يهذبها الوعى الفنى، عصر «آمان آمان» والأنغام التركية المفتعلة، والتأوهات الجنسية الصارخة، وبدأ مع أم كلثوم عصر الدراسة والوعى والفهم، عصر الإثارة العاطفية والروحية قبل أى شىء آخر، واستطاعت أم كلثوم أن تنتصر فى معارك أخرى صادفتها فى البداية.

انتصرت على تيار الأغانى المبتذلة التى كانت شائعة فى هذا العصر، فرفضت تمامًا أن تستسلم لهذا النوع من الأغانى، وكانت تبحث عن نصوص غنائية نقية رفيعة مهذبة. ولكى نتصور الابتذال الذى كان منتشرًا فى أغانى تلك الفترة يمكننا أن نقرأ هذا النموذج الذى يعتبر نسبيًا نموذجًا مهذبًا.. تقول أغنية من أغانى هذه الفترة:

أشبكها وأحبكها بمتين دبوس

وأنزل على صورتك

وأعض وأبوس

حتتك بتتك

مثل هذه الكلمات كثيرًا ما كان يرددها المطربون ومن بينهم منيرة المهدية. ولكن أم كلثوم قاومت هذا التيار ورفضته، ولم تنس أبدًا أنها حفظت القرآن فى طفولتها وأنها كانت تنشد الأغانى الدينية الرفيعة، وأنها كانت تحفظ الكثير من أرق قصائد الشعر العربى!! 

وانتصرت أم كلثوم فى معركة ثالثة فقد كان عليها أن تكسب للفن احترامًا حقيقيًا فى المجتمع. وكان الفن فى تلك الفترة يرتبط فى أذهان الكثيرين بمعنی الانحلال والبعد عن الحياة المحترمة المهذبة. ومنذ أيام الحفلات الماجنة التى كانت تقيمها بعض البيئات الأرستقراطية المتأثرة تأثرًا سطحيًا بالحياة الأوروبية، حتى بداية حياة أم كلثوم الفنية، وكان الفن، خاصة فن الغناء، مرتبطًا فى الأذهان بالمجون والعبث. ويكفى أن نتذكر موقف عبده الحامولى وهو ألمع فنان فى عصر الخديو إسماعيل والذى ظل سيد الفن الموسيقى والغنائى فى مصر حتی أول هذا القرن.. هذا الفنان الكبير عندما تزوج من المطربة المشهورة «ألمظ» حرم عليها الغناء ومنعها من ممارسة هذا الفن. ودخل فى أزمة عنيفة مع الخديو إسماعيل بسبب هذا الموقف. فإذا كان عبده الحامولى الفنان يعتبر اشتغال المرأة بالفن عارًا.. فكيف تكون الحال بالنسبة لمن لا يشتغلون بالفن؟! 

وحادثة أخرى وقعت لمنيرة المهدية، فقد كان مجلس الوزراء ينعقد فى عوامتها التى كانت تملكها وتقيم فيها على شاطئ النيل فى بعض الأحيان، ومع ذلك يروى لنا التاريخ فى تلك الفترة هذه الحادثة:

«لقد قبّل أحد الوزراء يد منيرة المهدية بعد أن شاهد أوبريت كليوباترا ومارك أنطونيو واعتبرت المقامات العالية هذا العمل لا يليق من وزير فأخرجته من الوزارة».

وهذه النظرة إلى الفن عانت منها أم كلثوم كثيرًا فى البداية.

لقد كان هناك إقبال على الفن.. ولكن لم يكن هناك احترام حقيقى له. بل كان الفن مثل المخدرات، شيئًا يتم الاهتمام به- عند هواته- فى السر، أما فى العلن فإن ذلك لا يجوز.

وقد عانت أم كلثوم كثيرًا من هذه النظرة، ولكن أم كلثوم كافحت حتی انتصرت، وكان انتصارها هو أنها غيرت النظرة إلى الفن واستطاعت أن تكسب لنفسها ولفنها احترامًا كبيرًا، وإن هذا الأمر قد اقتضى منها مجهودًا ضخمًا، ولكن ما كسبته لم يكن لنفسها فقط.. بل لمصلحة الفن والفنانين فى بلادنا، لقد استطاعت أن تكسب احترام كبار المثقفين والفنانين فى بلادنا فكتبوا عنها وتأثروا بها.. كتب عنها العقاد، وتوفيق الحكيم، وزكى مبارك، وكامل الشناوى، ورامى، وسمى نجيب محفوظ ابنته الأولى باسم «أم كلثوم» تعبيرًا عن حبه للفنانة الكبيرة وإعجابه بها، وكتبت عنها الدكتورة نعمات فؤاد كتابًا قيمًا مليئًا بالمعلومات والعواطف الصادقة.

هذه الشخصية الفذة التى تمثلها أم كلثوم، والتى استطاعت أن تكتسح العقبات الكثيرة التى وقفت فى طريقها.. هل كانت تعتمد على موهبتها فقط؟

کلا.. إن عبقرية أم كلثوم تعتمد على عناصر أخرى كثيرة أحاطت بموهبتها وساعدتها على أن تقف على القمة الفنية التى احتلتها طيلة حياتها.

ومن أهم العناصر فى عبقرية أم كلثوم ثقافتها التى كونتها بالجهد والمتابعة. فقد قرأت أم كلثوم مع رامى- على سبيل المثال- عددًا كبيرًا من أمهات الكتب العربية القديمة والحديثة.. قرأت معه كتاب «الأغانى» و«مختارات البارودى» و«دیوان شوقى»، وقرأت لكثير من شعراء العرب القدماء. وقد أحاطت نفسها على الدوام بعناصر من أفضل المثقفين والأدباء والمفكرين فى عصرها.. فساعدها هذا كله على أن تحس بروح العصر ولا تتخلف عنه أبدًا. وقد اهتمت بثقافتها الأدبية اهتمامًا كبيرًا، لمعرفتها أن هذا النوع من الثقافة يساعدها على تربية ذوقها، ويساعدها على الإحساس بكلمات أغانيها، ويعطيها قدرة عالية على فهم المعنى الكامن وراء هذه الكلمات، فتتمكن من أدائه أداء عميقًا مناسبًا.

وأم كلثوم تحرص دائمًا على أن تبذل أقصى جهدها فى أى عمل تقوم به، وهذا سر آخر من أسرار عبقريتها، فهى تجرى عادة أكثر من ثلاثين بروفة لأى أغنية جديدة قبل أن تقدمها للجمهور. ولم تفارقها هذه العادة حتى عندما كانت تعمل فى السينما، حيث مثلت ستة أفلام، وقد قال عنها أحد المخرجين: «إنها عندما كانت تقبل الدور الذى ستمثله كانت تحرص على دراسته بدقة، فتقرأ السيناريو بعناية، وتعيش فيه، وتحفظ الحوار حفظًا تامًا متقنًا».

ويمكننا أن نقارن هذا الكلام بما قالته إحدى الممثلات منذ أيام من أنها تدخل الاستوديو بعد ساعتين من الاتفاق على الفيلم!

وإلى جانب هذه الدقة فى أداء عملها فإن من عادة أم كلثوم فى العمل أن تحترم رأى المتخصصين ولا تتدخل فيه أبدًا، ويقول عنها نفس المخرج السينمائى: «إنها كانت تبدى اهتمامًا بالغًا برأى المخرج والمصور والماكيير، تنصت إلى ملاحظاتهم وتنفذها بدقة دون اعتراض أو تذمر.. ولا أذكر أبدًا أن أم كلثوم تأخرت عن الموعد المحدد مرة واحدة.. فى الدقيقة والثانية تكون فى الاستوديو. وهى لا تتدخل أبدًا فى اختصاصات أحد، كل شىء متروك للمتخصصين».

وقد سألها فكرى أباظة مرة كيف يشاء الله لك هذا النبوغ، وهذه العبقرية وهذا المران الطويل على الحفظ والتنغيم والترنيم ولم تفكرى مرة فى أن تضربى بأناملك الرقيقة على العود أو القانون أو تلحنى؟

وكان جوابها على فكرى أباظة: «إننى من المعتنقين مبدأ (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فضلًا عن أننى مهما تدربت على العود أو القانون فلن أطاول أفذاذ الفنانين والملحنين ولا تقبل غريزتى أن أكون الثالثة أو الرابعة أو العاشرة أو الأخيرة».

ومن هذا الاحترام للتخصص، والاحترام لعمل الآخرين تنبع صفة أخرى فى شخصية أم كلثوم هى إخلاصها وتفانيها فى أداء عملها الفنى، وحسبنا أن نقرأ وصف عبدالوهاب لها وهى تغنى.. وهو الوصف الذى نصدقه جميعًا لأنه وصف لا نراه بالفعل.. يقول عبدالوهاب:

«من مظاهر إخلاصها ما يراه المستمع فى أم كلثوم.. إنه لا يرى مطربة تغنى ولكنه يرى فنانة تتعب، فنانة تعرق، تعطى كل ما عندها للمستمع دون أن تضن عليه.. إنها تعطيه دموعها وأنفاسها وليس صوتها فقط».

وكل من شاهد أم كلثوم وهى تغنى يدرك تمامًا صدق هذه الكلمات التى قالها عبدالوهاب.

ويمكننا أن نضيف إلى أسرار عبقرية أم كلثوم أنها تعرف شعبها وبلادها معرفة جيدة، وتعرفها بالصلة المباشرة والتجربة الشخصية منذ أن كانت صبية صغيرة تجوب القرى والأقاليم.. لقد عرفت ذوق الشعب ومزاجه، وفهمت مشاعر الجماهير المختلفة فهمًا أصيلًا عميقًا، ولذلك كله تربت لديها حاسة تمكنها من معرفة الجمهور الذى تغنى له، حتى تستطيع أن تقدم له ما يرضيه ويحبه ويتجاوب مع إحساسه وشعوره وذوقه.

وليس فى هذا الموقف ما تلام عليه الفنانة الكبيرة، بل هو من جانبها احترام عميق للجمهور وتقدير له، وأم كلثوم لم تحاول أن تنزل إلى مستوى النزوات العابرة التى يمكن أن يحس بها هذا الجمهور أو ذاك.. وإلا كانت قد انساقت مع الأغانى المبتذلة، التى تفيض بالعبارات الجنسية الصارخة.. والتى كانت منتشرة عندما بدأت أم كلثوم حياتها الفنية، ولكن أم كلثوم رفضت ذلك تمامًا، وصممت على أن تغنى أغانيها المختارة الراقية.

وفى حدود هذا الموقف الفنى كانت تحاول دائمًا أن تتجاوب مع جماهيرها المختلفة.

وأخيرًا فإن من أعظم أسرار عبقرية أم كلثوم قدرتها الفنية الخارقة على أن تسيطر على الوسائل الآلية الجديدة دون أن تفقد شيئًا من قيمتها الفنية. فقد غنت أم كلثوم بدون میکروفون ونجحت نجاحًا كبيرًا.. ثم غنت أمام میکروفون، وكان صوت أم كلثوم هو أول صوت سجلته الإذاعة المصرية فى حفل تاريخى خارجى سنة ١٩٣٥. وعندما ظهرت السينما فى بلادنا اشتركت فيها وقامت بتمثيل ستة أفلام، ونجحت فى أفلامها وأثنى عليها النقاد كممثلة ثناء كبيرًا، وكان من أفلامها المعروفة «دنانير» و«فاطمة» و«نشيد الأمل» و«وداد».

وأخيرًا عندما ظهر التليفزيون فى بلادنا سنة ١٩٦٠، نجحت حفلات أم کلثوم التى قدمها التليفزيون نجاحًا كبيرًا.

وهذا كله اختبار ضخم لمعدن أى فنان، فهناك فنانون ينجحون فى رسائل معينة ولا ينجحون فى غيرها، وهناك فنان ينجح أمام الميكروفون ولا ينجح بدون میکروفون.. وهناك فنان لا ينجح أمام الميكروفون وينجح بدون میکروفون وهناك من ينجح كمطرب ولا ينجح كممثل.. إلخ.

ولكن أم كلثوم استطاعت أن تستفيد من جميع وسائل التقدم العلمى فى الفن.. ولم تفقد موهبتها شيئًا بل تألقت دائمًا واستطاعت أن تنجح فى كل تجربة، وقد ساعد هذا كله على زيادة جمهورها واتساع قاعدته فى شتى أنحاء الوطن العربى.

وأخيرًا.. ماذا يمكن أن نقول- فى إيجاز- عما قدمته أم كلثوم إلى الحياة الفنية العربية؟!

لقد قدمت الكثير، فارتفعت بمستوى الأغنية العربية عندما اهتمت إلى أقصى حد باختيار كلماتها وحاولت باستمرار أن تختار نصوصًا لها جمالها وقيمتها سواء فى الأدب الحديث أو الأدب القديم، ومعظم أغانيها من هذه الناحية جميلة رقيقة أحسنت أم كلثوم اختيارها.. كل ذلك بالإضافة إلى دقة أدائها ووضوح الكلمات والحروف فى صوتها، حتى لقد قال عنها أحمد رامى:

«.. إذا أردت أن تكون شاعرًا فاقرأ الجيد من الشعر العربى والعالمى، وأكثر من الاستماع إلى أم كلثوم.. وذلك لأن أم كلثوم تجلو الألفاظ فتجعلها واضحة مشحونة بالعاطفة وتخلق لدى من يسمعها فى نهم إحساسًا عميقًا بالكلمة والنغم وعذوبة الأداء».

واستطاعت أم كلثوم أيضًا أن تخدم الموسيقى العربية.. ويقول الفنان سامى الشوا: «إنه لولا أم كلثوم لما ظل للموسيقى العربية طابعها التقليدى، فمنذ سبعين عامًا كان المغنى يغنى التواشيح والقصيدة ثم جاءت فترة تجارية راجت فيها الطقاطيق ثم عادت بنا أم كلثوم إلى القصيدة، وبهذا حفظت للموسيقى الشرقية جانبًا كبيرًا من أصالتها».

ولم يقتصر الإعجاب بأم كلثوم على الشرقيين والعرب فقط، بل إن كل من سمعها من الغربيين أبدى إعجابه وحماسته لفنها العظيم.

قالت عنها الممثلة الإنجليزية الكبيرة «فيفيان لى» بعد أن استمعت إليها فى القاهرة سنة ١٩٤٣ أثناء الحرب العالمية الثانية:

«إنها معجزة من معجزات الدنيا».

واستمع إليها سنة ١٩٢٦ موسیقار أمريكى كبير فقال:

«الآن فقط فهمت الموسيقى العربية، وتذوقت حلاوتها، وأمكننى أن أستمتع بها وأفهم لها معنی، إن هذه الآنسة فخر الشرق، وفخر الموسيقى الشرقية، ولو أرادت هذه الفتاة أن تأتى معى إلى أمريكا وأن تنقطع مدة طويلة لدراسة الموسيقى الغربية لكان لها شأن كبير».

هذه مجرد أمثلة من آراء الغربيين الذين استمعوا إليها فى فنها وعبقريتها الأصيلة.

ولا يمكننا أن ننهى هذه الرحلة مع عبقرية أم كلثوم دون أن نشير إلى القيمة السياسية التى تمثلها فى حياتنا.

فأم كلثوم عامل أساسى من عوامل وحدة الذوق والشعور فى الوطن العربى كله، إن العرب فى كل مكان يرتبطون بصوتها ارتباطًا عميقًا، ويعرفون بعضهم من خلال وحدة العواطف التى تثيرها أم كلثوم فى قلوبهم.

وقد قال عنها أحد الفنانين الغربيين يومًا: «إننى كلما ذهبت إلى بلد عربى أو فيه عرب وجدت الجماهير تلتف حول أغانيها، يسمعونها كأن بهم سحرًا».

وما يقوله الفنان الغربى ينطبق تمامًا على محبة العرب جميعًا لأم كلثوم وارتباطهم بفنها ارتباط عمیقًا.

وأم كلثوم تقوم بدور كبير فى تدعيم اللغة العربية بأغانيها الفصيحة، وأغانيها العامية معًا، وذلك لأن أداءها للحروف والكلمات هو أداء سليم يتميز بالوضوح والصفاء الكامل، كما أن أغانيها العامية قريبة إلى العربية الفصحى، وقليل من هذه الأغانى العامية ما يبتعد عن الفصحى ابتعادًا كبيرًا، فعندما تغنى أم كلثوم من كلمات رامى هذين البيتين: 

فضلت أعيش بقلوب الناس

وكل عاشق قلبى معاه

شربوا الهوى وفاتوا لى الكاس

من غير نديم أشرب وياه

عندما نسمع هذين البيتين ندرك تمامًا أنهما قريبان جدة إلى العربية الفصحى، فكلمات البيتين فى معظمها فصيحة تمامًا ولم يدخل عليها التعديل إلا فى بعض الألفاظ مثل «وياه» و«معاه» و«فضلت».. أما بقية الألفاظ فهى عربية فصحى.

وبعد.. إن أم كلثوم فى حياتنا هى ملحمة كبيرة رائعة استطاعت أن تعبر عنا منذ صباها الأول وخلال ما يزيد على ستين عامًا متصلة، فأحبتها أجيال شعبنا المختلفة من رجال ونساء وأطفال.. من عاشقين وعاملين ومتصوفين وثوار.. لأنها عبرت عن كل هذه المشاعر.. عن الحب والعمل والثورة والتصوف.

من أجلنا بدأت هذه الملحمة من القرية المصرية.

وما زالت هذه الملحمة الفنية تعيش فى قمتها بين ربوع الوطن العربى كله من الخليج إلى المحيط.

من كتاب «لغز أم كلثوم» 


أيام الست فى «طماى الزهايرة»
أقراء أيضا
[ad_2]
جميع أفلام ناشونال جيوغرافيك تجدها هنا أضغط الصورة

المصدر : منتوف ومواقع انترنت 👇أيام الست فى «طماى الزهايرة»
[ad_1]
أيام الست فى «طماى الزهايرة»
افضل 40 تطبيق أندرويد مجانا بأداء خرافي
[ad_1]
قناة الأبراج على يوتيوب متوفرة الان