حين فقد السوريون بيوتهم.. قراءة ثقافية في رمزية مسلسل “الفصول الأربعة”
في زمن التفكك السوري، لم يكن فقدان البيت مجرّد واقعة عمرانية، بل كان تفككاً بنيوياً في مركز الإحساس بالوجود، فحين تنقطع العلاقة بالمكان الذي كان يُنظم العاطفة والذاكرة والعلاقات اليومية، يبدأ المعنى بالتلاشي تدريجياً، وتصبح استعادة الماضي فعلاً نفسياً أكثر منه سردياً.
هنا، يظهر مسلسل الفصول الأربعة كأحد أكثر النصوص الدرامية التي حافظت على صورة “البيت السوري الممكن” في الوعي الجمعي. ومع مرور الزمن يتحوّل هذا النص التلفزيوني إلى ما يشبه البيت المتخيّل أو المؤجل، الذي يلجأ إليه السوري حين تضيق اللغة، وتتكسّر المرايا، وتتعذّر العودة.
إنه ليس استعادة لماض كامل فقط، وإنما بحثٌ غريزي عن نقطة عاطفية تتيح النجاة من هشاشة الحاضر، وعن صيغة جمعية للحنين يمكن أن نقتسمها دون خوف.
يقدم مسلسل الفصول الأربعة نموذجاً درامياً لعائلة ممتدة تقيم ضمن فضاء سكني مشترك، تتحول فيه “البيتية” إلى بنية سردية عضوية، تتجاوز حضور الجدران أو التوزيع الهندسي للمكان، لتصبح مركزاً للعلاقات الحية والتفاعلات الشعورية، وتاريخاً يومياً مصغراً.
هذا الفضاء يمكن تحليله في ضوء مفهوم “البيت كنظام معنوي” الذي طرحه الأنثروبولوجي دانييل ميلر، حيث البيت لا يُفهم بوصفه بناءً فيزيائياً بقدر ما يمكن فهمه كنسيج عاطفي يتم إنتاجه وإعادة إنتاجه عبر التفاعل المستمر بين الأفراد.
يرى نوربرت إلياس أن الزمن ليس معطى فيزيائياً بقدر ما هو تكوين اجتماعي ـ ثقافي ينبثق من العلاقات والسياقات اليومية، ومن هذا المنظور فإن “الفصول الأربعة” لا يعيد فقط عرض الحياة العائلية، بل يعيد خلق زمن اجتماعي خاص بها، ينسج تواصل الأفراد ضمن طقوسهم وانفعالاتهم، ويعيد تثبيت العلاقة بينهم وبين أنفسهم كمجتمع صغير داخل الشاشة.
العائلة كشبكة شعورية.. من الطمأنينة البنيوية إلى هشاشة الشتات
البيت، كما يُقدمه المسلسل، ليس مجرد مسكن بل بنية شعورية طقسية؛ قد يتكرر فيه الإفطار الجماعي، والعتاب الصغير، والضجر، والاهتمام، واللحظات الحميمة التي تعيد تثبيت الهوية الجماعية للأسرة. هذه البنية تظهر اليوم بعد تحوّلات اللجوء والتهجير والغربة والفقد الأسري كأثرٍ حنيني مركزي، خصوصاً لدى جمهور الشتات، الذي يستعيد المسلسل كأرشيف شعوري لا فقط كمنتج تلفزيوني.
في ضوء ذلك، يغدو البيت كما صاغه المسلسل بوصلة عاطفية، تحافظ على توازن الأفراد في عالم تتسارع فيه التحولات وتتشظى فيه المرجعيات.
لطالما شكّلت العائلة في المجتمع السوري بنية مستقرة وظيفياً، وفق نموذج تالكوت بارسونز الكلاسيكي الذي يرى في العائلة نواة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي.
في علم الذاكرة الثقافية، يشير مفهوم النوستالجيا الوظيفية إلى الميل لاستخدام الماضي كآلية دفاع نفسي أمام التغيّر الكاسح، وهذا ما يمكن أن يفسّر ظاهرة استعادة حلقات “الفصول الأربعة”، عبر منصات المشاهدة، من قبل سوريين كثر في أصقاع متباعدة.
البيت المتخيّل في المسلسل، بأثاثه العادي وحواراته الدافئة، يُستعاد كـبيت عاطفي بديل، ليس لأننا فقدنا بيوتنا الواقعية فقط، بل لأننا أيضاً فقدنا اللغة التي كنا نتحدث بها داخلها. كل ذلك نجده مجازاً في تلك الدقائق الدرامية التي صنعت من بيتٍ تلفزيوني، بيتاً وطنياً شعورياً مشتهى.
بحسب جاك رانسيير، ليست وظيفة الفن أن يعرض الواقع، بل أن يُعيد توزيع الأحاسيس التي نستطيع الإحساس بها. من هنا، فإن الدراما العائلية لا يجب أن تؤدي وظيفة توثيقية مباشرة، وإنما يجب أن تعمل على تخليق خيال اجتماعي بديل، يُمكّن الفرد من الاعتراف العاطفي بنفسه وبالآخر.
“الفصول الأربعة”، إذن، لا يسجل فقط نمط عيش سابق، بل يُعيد تمثيله ضمن شروط شعورية محببة، تساعد على خلق مشترك وجداني رمزي، في غياب المرجعيات الجماعية الأخرى.
إن استعادة الحبّ كقيمة مدنية شعورية، هي ضرورة ثقافية ـ تربوية، تُمكّن المجتمع من إعادة بناء نسيجه عبر الأدب، الفن، الحوار، والنظرة البسيطة المتسامحة في وجه المختلف.
البيت، بهذا المعنى، يُبنى بالثقة، بالانتباه، وبالذاكرة التي تعرف كيف تنسى دون أن تُنكر، وتتذكّر دون أن تُقصي.
في التحليل السوسيولوجي الكلاسيكي لبنية العائلة، تُعتبر الأسرة الممتدة نموذجاً اجتماعياً مستقِراً يقوم على الاستمرارية الرمزية، وتماسك السلطة الأبوية، وتوزيع الأدوار الوظيفية ضمن شبكة قرابية متماسكة، وقد شكّلت هذه البنية التي سادت في سوريا حتى مطلع الألفية الثالثة حاضنة أولى للهُوية الاجتماعية، وآلية لإعادة إنتاج القيم الجمعية والروابط الاجتماعية.
لكن، وفق تحليلات أولريش بيك وزيغمونت باومان حول “المجتمع السائل”، فإن التحولات الاقتصادية، والهجرات الداخلية، وانتشار أنماط الفردانية الجديدة، أدت إلى تفكيك النموذج التقليدي، وتراجع سلطة الأب، وإعادة صياغة موقع الأم من محور الرعاية إلى محور الصمت أو التحمل الرمزي.
جاءت الحرب لتُسقِط هذه التحولات من حيّز التدرج إلى التفكك البنيوي الحاد. لم يعد البيت فضاءً للتفاوض الرمزي بين الأجيال، بل أصبح في كثير من الحالات، ساحة صراع صامت أو غياب متبادل.
زمن العائلة.. الفصول الأربعة كإيقاع يومي ضد التفتت
في الشتات؛ تحوّل البيت التلفزيوني إلى بديل رمزي عن البيت الحقيقي، وأصبحت الشخصيات الدرامية بكل خيباتها ودفئها، مرآة لعائلات لم تعد تجتمع ولم يعد لها سقف، أو صورة معلقة في الذاكرة سوى تلك التي التُقطت قبل الحرب مباشرةً.
إلى جانب البنية الدرامية والزمنية، لعبت العناصر البصرية والسمعية دوراً خفياً في ترسيخ أثر المسلسل داخل الذاكرة الجمعية، من الإخراج إلى الموسيقى التصويرية شكّلا نسيجاً من الحضور الهادئ الذي ارتبط لا شعورياً بمعاني الدفء، الطمأنينة، والعودة اليومية المتكررة إلى الذات والعائلة. هكذا تحوّل المسلسل، ليس بالفكرة فقط بل بإيقاعه الحسيّ أيضاً، إلى أحد الأركان التي حافظت على صورة “البيت الممكن” في المخيال السوري.
هل هذه نوستالجيا؟ ربما، لكنها ليست نوستالجيا للزمن، بل نوستالجيا للشعور، للمكان الذي يسمح لك بأن تكون غير كامل، متردداً، محبوباً على الرغم من زلاتك.
في هذا السياق، يصبح البيت كما ظهر في المسلسل تجلّياً شعورياً للهُوية الجمعية، بيت لم يعد موجوداً، لكنه بقي كصورة خيالية، يعود إليها السوري حين تضيق عليه العناوين في بلدان اللجوء، أو في الحارات التي صارت تخيفه في مدنه المدمّرة.
أحد العناصر البنيوية التي منحت مسلسل “الفصول الأربعة” قيمته العاطفية المستدامة، هو طريقته الخاصة في التعامل مع الزمن. كما لم يكن الزمن في المسلسل زمناً درامياً تقليدياً تسير فيه الأحداث على وتيرة تصاعدية حتمية، بل كان زمناً دائرياً، طقوسياً، مشبعاً بالتكرار والتفاصيل اليومية الصغيرة.
بحسب ميشال دو سرتو، فإن الزمن اليومي كما يُعاد تشكيله عبر الممارسات الصغيرة يمكن أن يكون شكلاً من المقاومة الصامتة في وجه تفكك المعنى واندفاع التاريخ الكبير. ومن هذا المنظور، يتحوّل الزمن في “الفصول الأربعة” إلى بنية مضادة للتفكك، إذ تعيد التفاصيل اليومية (إعداد المائدة، الانتظار، التكرار) تشكيل شعور بالاستمرارية داخل واقع يتآكل.
هذا الخيار يفتح زاوية ثقافية مقاومية شعورية، ويُظهر المسلسل كأداة لإعادة بناء الزمن من الأسفل، لا من فوق.
حين يصبح الحبّ مشروعاً اجتماعياً.. إعادة تخيّل البيت السوري
إن البنية الزمنية للنص ليست مجرد هيكل سردي، بل هي أداة لإعادة تنظيم الوجود، عبر الجمع بين الزمن التاريخي والزمن الشعوري، وهذا ما فعله المسلسل، فقد منحنا زمناً عاطفياً متواصلاً، يمكن للمشاهد أن يدخل إليه ويخرج منه دون أن يشعر بالاغتراب، لأن الزمن هناك لا يعاقبه، بل يحتضنه.
إن هذا التكوين الزمني الذي لا يضغط على الشخصيات، بل يفسح لها المجال، ساعد في ترسيخ المسلسل كفضاء وجداني بديل عن الزمن الواقعي، القاسي والمتسارع والممزق. ففي بلد تكسّر فيه تسلسل الزمن بفعل الانتكاسات التي سببتها الحرب، وفقد الناس فيه القدرة على “تخطيط المستقبل”، يأتي مسلسل مثل الفصول الأربعة ليعيد تركيب الزمن وفق إيقاع أكثر حناناً، وأكثر إنسانية.
ربما لا يعود البيت السوري كما كان، لكنه قد يُصاغ من جديد، لا كحنين ساذج وإنما كمشروع ثقافي مشترك، كفكرة قيد الإنشاء تُؤسسها الدراما، وينقذها الحنين إن لم يُفرط في تهذيبه.
إن مشروع إعادة بناء البيت السوري يبدأ من استعادة “الفصول الأربعة”، كفرضية ثقافية لما قد نكون قادرين على تخيّله معاً، إن امتلكنا شجاعة أن نحبّ من جديد، أن نصغي دون خوف، وأن نكتب المشهد الأخير بأيدينا، لا على شاشة تلفاز، بل في الواقع الذي ينتظر من يروي حكايته بطريقة أكثر حناناً وأقل قسوة.
#حين #فقد #السوريون #بيوتهم. #قراءة #ثقافية #في #رمزية #مسلسل #الفصول #الأربعة
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.