جاري التحميل الآن

هل انتصرت الثورة حقاً؟

هل انتصرت الثورة حقاً؟

هل انتصرت الثورة حقاً؟

ما زال ذكر أحداث الساحل والانتهاكات الكبيرة من نهب ممتلكات وحرق قرى وأراض وأرزاق في الأيام الآذارية السوداء، في مقال أو بيان أو شهادات أو خبر أو تقرير، يستفز أعدادا هائلة من السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي ويحولهم إلى حالة هجوم لا تفسير لها على من ذكر الحدث أو وضع الخبر على صفحته؛ مع إظهار مخيف لخطاب كراهية طائفي وعنصري ضد العلويين جميعا في محاولة لشيطنتهم وتحميلهم وزر ما حدث بعد 2011 دون أي تفريق بينهم كمجموعة بشرية متنوعة وغير متجانسة وبين النظام ببنيته السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية التي قامت على منظومة أوليغارشية لم يكن العلويون سوى جزء منها، والمقصود بالعلويين هنا هم البطانة التي استفادت من علاقات سياسية واقتصادية مع النظام بوصف السياسة هي الإطار الأوسع للعسكر والأمن، أما باقي العلويين من جماعات بشرية تعيش في أماكن عدة فقد كانت تعاني فقرا وتهميشا قل مثيله، خصوصا في الأرياف الجبلية البعيدة، حيث وعورة الجبال لا تصلح للزراعة، وحيث خطط التنمية الحكومية كانت تتجاهل عن سابق قصد تلك المناطق فلا يبقى أمام أفرادها سوى الالتحاق بالقطاع العسكري الحكومي لضمان راتب شهري يحمي من ذل الفاقة ولو قليلا. مثل معظم أبناء المناطق المهمشة السورية، على عكس أبناء المدن الذين فتحت أمامهم خيارات عدة في الاقتصاد الفردي والجمعي. وهذه كلها معلومات تم الحديث عنها وتوثيقها خلال سنوات الثورة من قبل كثر من الباحثين، لكن هناك إصرار على التعامي عنها وتجاهلها لصالح خطاب طائفي كاره يدق أسافين يومية في نعش السلم  الأهلي ويستعير نفس أدوات خطاب الكراهية الذي توجه خلال سنوات الثورة ضد البيئة الثورية وضد كل من أيد الثورة ووقف معها؛ وبطبيعة الحال كان للعلويين حصة كبيرة في تبني هذا الخطاب بحكم ارتباط معقد بالنظام.

نعيش في سوريا، واقعا وافتراضا، حاليا مرحلة تبادل الأدوار واستعادة سرديات قديمة لكن بطريقة معاكسة، أقل ما يقال فيه إنه واقع مؤسف ومسبب للخيبة، ذلك أن هروب الأسد وسقوط أدواته كان يفترض به أن يترافق مع سقوط منظومته بأكملها، بما فيها المنظومة الفكرية الجمعية التي عانى منها الشعب السوري الثائر لسنوات طويلة. لكن ما حدث ويحدث يؤكد أن تلك المنظومة راسخة في عمق المجتمع وفي ذاكرته الجمعية بحيث يبدو التغيير هو مجرد تغيير شكلي وتبادل في الأدوار لا أكثر، بينما بنية الاستبداد المجتمعية لم تمس إطلاقا، بل على العكس، هي تبدو كما لو أنها تتسع وتتمدد ببحثها عن ضحايا جدد في قلب المجتمع السوري، وبتشكيلها لمظلوميات جديدة تتنافس على الظهور العلني مع مظلوميات أقدم لم يتم إنصافها وتحقيق العدالة لها. ولم يحقق لها الانتصار سوى نشوة وطنية آنية تحولت بسرعة إلى نشوة متشفية من الآخر (المهزوم) ومطالبة بالمزيد من التشفي مع كل مجزرة أو انتهاك جديد يعاني منه هذا الآخر، خصوصا مع عجز الدولة الجديدة عن السير في موضوع العدالة الانتقالية الذي سيكون الخطوة الأولى والكبيرة نحو مجتمع سوري يبدأ بالتعافي وببناء عقد اجتماعي جديد يحقق سلما أهليا مستداما وقويا لا مؤقتا ولا هشا كما كان في الأيام الأولى للتحرير.

لكن هل العجز عن وضع آليات السلم الأهلي هو الوحيد الذي يجعل المجتمع السوري على شفير الهاوية ويجعله جاهزا للانفجار في أية لحظة؟ يقينا إن الأمر يتعدى هذا، ذلك أن المجرم الفار قد ترك بلدا مجرفا تماما على كل المستويات، ترك بلدا مخربا ومدمرا ومنهوبا ومريضا. وللأسف فإن خبرة من استلموه في إدارة بلد بحجم سوريا، وبكل ملفاته الداخلية والخارجية الخطيرة، هي خبرة شبه معدومة، ولا يكفي اعتمادهم على تجربتهم في حكم مدينة مثل إدلب للانتقال إلى حكم سوريا الواقعة تحت نار العقوبات الدولية السابقة، وتصنيف غالبية مسؤوليها الحاليين ممن استلموا المراكز السيادية كـ (إرهابيين) قبل استلامهم للسلطة وامتناع المجتمع الدولي عن سحب هذا التصنيف حتى الآن.

أنتجت سياسة الأسد تلك كل هذا الخراب الذي نعيشه، وهو خراب مرشح للمزيد لو استمرت الحكومة الحالية باستعارة نفس النهج الأسدي في التعامل مع الملفات الداخلية الملحة من حيث تصدير فشلها وعجزها عن إيجاد حلول اقتصادية إسعافية

يعيش غالبية السوريين حاليا تحت خط الفقر أو على حافته، ثمة غلاء فاحش وثمة أجور زهيدة، وحاليا ثمة شح في إعطاء الموظفين أجورهم الشهرية، ومع التسريحات العشوائية التي تمت بحق عشرات آلاف الموظفين في كل القطاعات بات كثر جدا من المواطنين بلا أي مصدر دخل؛ ونحن هنا نتكلم عن المدن والمحافظات التي تسير أوضاعها الأمنية بشكل مقبول نسبيا، بينما في الساحل مثلا يبدو الوضع الاقتصادي أشد سوءا مع انقطاع معظم أبناء الريف عن العمل الوظيفي أو الحر بسبب التهجير وحرق الأملاك أو نهبها، وبسبب الخوف من القتل أو الخطف، أو تجنبا لأية محاولة استفزاز قد يتعرض لها العلويون على بعض الحواجز الأمنية المنتشرة بكثافة، خصوصا في مناطق ارتكاب الانتهاكات السابقة. كما أن قرار الرئيس الأميركي ترامب بمنع تمويل برامج المساعدات أوقف دعم أعداد كبيرة جدا من المهجرين السوريين سواء في المخيمات أو في المناطق التي كانت واقعة سابقا خارج سيطرة النظام ما أعادهم إلي نقطة الصفر تماما، لا يتمكنون من العودة إلى سوريا بسبب الدمار الكامل لبلداتهم وقراهم، ولا يستطيعون الاستمرار بما هم فيه بدون دعم اقتصادي يمنع عنهم الجوع. باختصار فإن الوضع الاقتصادي السوري بالغ السوء ويكاد يكون كارثيا، ما يزيد من الغضب الشعبي العام والاحتقان الذي لا بد له من الانفجار في لحظة ما؛ وللأسف فإن هناك ميلا لدى فئة من مسؤولي الإدارة الجديدة بتحويل هذا الاحتقان نحو العلويين وتحميلهم وحدهم مسؤولية ما وصلت إليه البلاد، كما لو أن هذه الفئة تخلق عدوا داخليا تسعى إلي توجيه أنظار الغاضبين إليه وإبعادها عن السلطة؛ هذا بكل حال يذكر بطريقة نظام الأسد في تحميل بيئات الثورة مسؤولية ما حدث وجعل مؤيديه مؤمنين بأن الثورة وأصحابها هما السبب في خراب سوريا. أنتجت سياسة الأسد تلك كل هذا الخراب الذي نعيشه، وهو خراب مرشح للمزيد لو استمرت الحكومة الحالية باستعارة نفس النهج الأسدي في التعامل مع الملفات الداخلية الملحة من حيث تصدير فشلها وعجزها عن إيجاد حلول اقتصادية إسعافية، بسبب العقوبات وشروط المجتمع الدولي التي لا تجد لديها آذانا صاغية، نحو عدو داخلي مفترض، هذا النهج يشكل شرارة شديدة الملاءمة للحرب الأهلية التي لن توفر أحدا هذه المرة، خصوصا مع انتشار السلاح بين المدنيين ومع وجود عدد كبير من الفصائل الجهادية التي تكفر (هيئة تحرير الشام) وتكفر الكثير من (السنة) السوريين بقدر تكفيرها للأقليات.

يتطابق سلوك بعض المثقفين الديمقراطيين وأصحاب النضالات الطويلة مع سلوك المسحوقين من الجيل الذي لم يجد بديلا عن الخراب سوى المتطرف من الدين المنتج لخطاب كاره حد الإعدام للمختلف عنه.

هذا المناخ السوري المتوتر والمشحون والضاغط يلزمه أصوات عاقلة لمثقفين ونخب فكرية وثقافية وفنية واقتصادية تحاول أن تحيد الخطاب السوري الشعبي نحو الاعتدال والتوازن، لكن للأسف ما يحدث هو العكس تماما، ما يحدث هو انجرار النخب نحو الشعبوية وخطاب الكراهية الطائفي والعنصري المبرر للانتهاكات أو الصامت عنها بذريعة أنها حدثت سابقا، أو مقارنة ما يحدث اليوم بما كان يحدث أيام الأسد، وهذا هو العار بحد ذاته، فأن يقارن مثقف يدعي النضال في سبيل سوريا حرة وديمقراطية وعادلة سلوكا سيئا بسلوك أشد سوءا هو انهيار قيمي وأخلاقي مريع وينذر بخراب عميم.

قد توجد مبررات للسوريين الذين يتبنون خطاب الإنكار والتشفي والكراهية والسخرية من الضحايا، فمعظم هؤلاء صيرتهم الحرب وويلاتها كأصحاب شخصيات غير متوازنة على المستوى النفسي والقيمي، ووجدوا في السلطة الحالية صورة متخيلة عن أنفسهم، صورة بطولية لم تعشها ذواتهم يوما، لهذا هم يتمسكون بها كما لو أنها حبل نجاتهم من انسحاق جديد. هذا أمر مفهوم ويحدث دائما لدى الأجيال التي تنشأ وتكبر في زمن الكوارث الكبرى. لكن أن يتطابق سلوك بعض المثقفين الديمقراطيين وأصحاب النضالات الطويلة مع سلوك المسحوقين من الجيل الذي لم يجد بديلا عن الخراب سوى المتطرف من الدين المنتج لخطاب كاره حد الإعدام للمختلف عنه، فإن ذلك يعني أن نظام الأسد قد انتصر فعلا رغم فراره. ذلك أن انتصار الثورة لا يعني فقط اختفاء النظام ونفيه بل يعني نفي منظومته الفكرية وثقافته كلها، فهل انتصرت الثورة حقا؟

شارك هذا المقال

#هل #انتصرت #الثورة #حقا

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات