إعادة دمشق إلى النور.. دعونا نعمل على أن تصبح “عاصمة متوسطية للثقافة والحوار”
تشكّل مبادرة “العواصم المتوسطية للثقافة والحوار” فرصة ذهبية لإعادة دمشق، أقدم عاصمة مأهولة، إلى النور، عبر تجديد حضورها في محيطها الأورومتوسطي، واستقطاب الفعاليات الثقافية والحوارية المدنية الإقليمية.
بالتوازي، أعلنت بلدية قرطبة الإسبانية، المدينة التوأم لدمشق منذ عام 2002، عن نيتها الترشّح للقب العاصمة الشمالية لعام 2027.
وفي حال تقدّمت دمشق بملف مشترك مع قرطبة، وهو أمر ممكن، فستحمل هذه الخطوة وقعًا إقليميًا إيجابيًا، لما يجمع المدينتين من إرث حضاري مشترك، وفرصة لإعادة تعبيد الجسور مع أوروبا، ولِما قد تمثله هذه التسمية من انطلاقة لتحديد سوريا مجددًا على الخريطة الثقافية والفنية الدولية.
دعونا، بدايةً، لا نخشى هذا المسار، فالسوريون وأصدقاؤهم في الخارج، أفرادًا وكيانات، متعطشون لإيجاد الفرصة لدعم البلاد، وهذه التسمية ستمثل دعوة عامة دولية للترحيب بالجميع في دمشق للعمل والحوار.
نعم، تتعاظم التحديات التي تواجهها محافظة دمشق، والوزارات المطلوبة لمساندة عملية التسمية؛ الثقافة، والسياحة، والإدارة المحلية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية التي يجب أن ترعى رسميًا مسار عملية التقدّم. لكن هذا الطلب، لو أُدير بشكل جيد، لن يُلقي بالأعباء على الإدارة المحلية وحدها، فالكيانات الأورومتوسطية الحكومية والمدنية، التي شاركتنا معاناتنا بشكل مباشر أو غير مباشر، تقف حائرة الآن أمام إيجاد الدعوة السليمة من دمشق للعمل المشترك، وهي تملك كل المؤهلات للتدخل على كل الأصعدة، وهذه الدعوة العامة ستنظم الجهود في هذا الصدد.
ما يدركه محيط سوريا الرسمي والمدني هو أن ما تشهده بلادنا اليوم لَهُو فرصة تاريخية تسهم في كسر توازنات قاتلة بُنيت عليها منطقتنا لعقود طويلة، وكل صانع للسلام والازدهار والتنمية يرنو إلى أن يكون له يد فيها. دعونا نستثمر ذلك بذكاء.
ما لِدمشق في التسمية؟
تتيح تسمية “العاصمة المتوسطية للثقافة والحوار” لدمشقنا الحبيبة مكاسب عظيمة: سياسية، وثقافية، ومدنية، واستثمارية.
سياسيًا، تمنح التسمية سوريا قوة ناعمة في الساحة الأورومتوسطية، في وقت نحتاج فيه إلى استثمار إرثنا الثقافي والحضاري كأداة قوة لهويتنا الخارجية. وتمتاز هذه القوة الناعمة بأنها تعمل بعيدًا عن الاشتراطات السياسية التقليدية، وتواجه كل هواجس العزلة.
كذلك، تعبّر التسمية عن رسالة الإدارة الجديدة للخارج بشأن إرادة حقيقية للاستقرار والتنمية بعيدًا عن أشباح الصراعات الداخلية والخارجية.
ثقافيًا، ربما من الصعب حصر المكاسب العظيمة لهذه التسمية إن أُحسن استثمارها. رغم كل المحاولات الفردية والجماعية لبناء المشهد الثقافي التعددي السوري منذ الاستقلال وتأسيس الدولة، وأدَ حكمُ البعث السلطوي، إلى جانب الانقلابات العسكرية، تلك المحاولات وقيّدها. قد تكون هذه التسمية محطة أولية للمّ شمل المشهد الثقافي في الداخل والخارج، وإعادة تموضعه وسط سياقه المتوسطي، كإطار جامع شامل يملك كل المؤهلات لاحتضان التعددية الثقافية والفنية السورية.
حواريًا، قد يكون فتح أبواب الحوار الإقليمي المدني أهم ما في هذه التسمية. ونقصد هنا إيجاد مساحة، أو خلق “مختبر” عام، نفهم فيه ونطوّر على مدار عام كامل كل السرديات والأفكار والأنماط التي نشأت في الداخل والشتات السوري ضمن سياق ومساندة أورومتوسطية.
لقد شكّل الشتات السوري شبكات هائلة، مدنية وثقافية، كما ترتبط بالبيئة الأورومتوسطية الدولية منظمات عديدة مهمّة، تملك الأهلية لجلب الفعاليات الدولية إلى دمشق، وهنا نتحدث –على سبيل الذكر لا الحصر– عن “الاتحاد من أجل المتوسط” بكل منصاته ومشاريعه الإقليمية، وعن “مؤسسة آنا ليند” وشبكاتها الواسعة للمجتمع المدني الأورومتوسطي، و”المعهد الأوروبي للبحر الأبيض المتوسط” بصفته شاغلًا للأمانة العامة لشبكة “يوروميسكو” لمعاهد الأبحاث والسياسات الأورومتوسطية، وغيرها كثير.
استثماريًا، على الرغم من أن التسمية معنوية ولا تتضمن رسميًا أية منح مادية، فإنها رسمية وتحمل الشرعية لتنظيم وحشد التمويلات الدولية، الحكومية والتنموية والخاصة. ونظرًا لكون الاقتصاد السوري أمام فرصة نمو هائلة نتيجة الاحتياجات القطاعية الشديدة، ستُسهم هذه التسمية في تنظيم تلك التمويلات والمشاريع على المدى القريب، إذ توفر لها إطارًا خدميًا وتمويليًا.
لاحتضان الزوار الخارجيين، ستحتاج دمشق إلى خطة تنمية حضرية أولية ضمن مسار إعادة الإعمار، عبر تعزيز المساحات العامة، ودعم القطاعات السياحية، السكنية والغذائية، ووسائل النقل، والمنشآت الصحية، وغيرها. ولا يُطلب من العاصمة تحوّل جذري خلال سنة ونصف، لكن الدعوة ستسرّع العمل وتحفّز القطاع الخاص، خاصة أن الفعاليات لن تكون مركّزة في يوم أو أسبوع واحد، بل على مدار العام، ما يجعل التخطيط لهذه الفعاليات ممكنًا ومستدامًا.
دمشق وقرطبة ونزار قباني
قبل تعيينه سفيرًا لسوريا في إسبانيا في الستينيات، زار نزار قباني قرطبة الأندلسية وكتب قصيدته: “في أزقة قرطبة الضيقة، مددتُ يدي إلى جيبي أكثر من مرةٍ لأُخرج مفتاح بيتنا في دمشق”.
ترتبط دمشق وقرطبة بتاريخ طويل بدأ مع الرومان، وبلغ أوجه حين دخل الأمويون قرطبة لتكون عاصمتهم بعد دمشق، حاملين معهم عمارة وأشجارًا وثمارًا وعلومًا وأشعارًا.
حديثًا، تمّت توأمة دمشق وقرطبة رسميًا عام 2002 عقب مشاركة الرئيس (المخلوع) بشار الأسد في افتتاح موقع آثار المدينة الزهراء بجانب قرطبة بدعوة من الملك الأسباني آنذاك خوان كارلوس وتمثيل ولي العهد (الملك الحالي) فيليبي السادس.
الزهراء، التي أسّسها عبد الرحمن الثالث لتكون مركز الحكم الجديد، والمعروفة في الأشعار العربية، كانت مفقودة لقرون طويلة، واكتُشف موقعها في بدايات القرن العشرين، ولا يزال مدخل الموقع التراثي يحتضن تذكارًا يوثق زيارة الرئاسة.
وفيما يخص ملف التسمية، أعلنت بلدية قرطبة عن تجهيز ملفها للتقدّم لتسمية “العاصمة المتوسطية للثقافة والحوار” عن الضفة الشمالية للمتوسط لعام 2027، وتستطيع دمشق التنسيق مع قرينتها لتقديم ملف مشترك. ستحتاج المدينتان لعقد اتصالات سريعة تنسيقية، بدعم من الخارجية السورية والإسبانية.
دمج الطلب له فائدة في دعم الملف بشكل قوية كما له أهداف استراتيجية، حيث سيحفز ملف سوريا السياسي في المنطقة، ويخلق علاقة مقربة مع الحكومة الإسبانية، التي لم تتوانَ في الترحيب بالتغيرات الأخيرة.
ما هي متطلبات ملف الترشيح؟
في عام 2022، أطلق “الاتحاد من أجل المتوسط”، بالتعاون مع “مؤسسة آنا ليند” و”الجمعية الإقليمية والمحلية الأورومتوسطية”، مبادرة “العواصم المتوسطية للثقافة والحوار”، بناءً على توصية وزراء الثقافة الأورومتوسطيين، وبدعم من المنتدى الإقليمي لوزراء خارجية الاتحاد في العام ذاته. يُجرى كل عام اختيار مدينة من الضفة الشمالية وأخرى من الضفة الجنوبية. وقد شملت الدورة الأولى هذا العام كلًا من تيرانا الألبانية والإسكندرية المصرية، وتليها في العام المقبل ماتيرا الإيطالية وتطوان المغربية، المدينتان الغنيّتان بمواقع التراث الإنساني.
تدور حاليًا عملية الترشح لعام 2027، مما يمنح دمشق وقتًا كافيًا لإعداد ملفها الثقافي، إذا توفّرت الإرادة السياسية. ويتطلب الترشح إعداد ملف واقعي، يعكس الإمكانيات الثقافية الكامنة رغم التحديات. ولا يُشترط تقديم برنامج ثقافي مكتمل، بل رؤية طموحة قابلة للتنفيذ، لعام متوسطّي الطابع، تُصمَّم بمشاركة فاعلة من المؤسسات الثقافية المحلية، والمدارس، والجامعات، والمجتمع المدني.
الموعد النهائي لتقديم ملفات الترشح هو31 تموز 2025.
أما التحدي السياسي الأبرز، فيكمن في استعادة عضوية سوريا في “الاتحاد من أجل المتوسط” التي قد تُشترط لتقديم ملف التسمية، وهو هدف قد يتحقق عبر جهد دبلوماسي فعّال، لا سيما بالتنسيق مع إسبانيا التي ستدعم ملف ترشيح قرطبة، وتتمتع بتأثير ملحوظ في السياق الأورومتوسطي.
ليس ترشيح دمشق مجرد لفتة رمزية، بل فرصة لإعادة تقديم سوريا إلى العالم من بوابة الثقافة والحوار، بعد سنوات من الصراع والانكفاء.
#إعادة #دمشق #إلى #النور. #دعونا #نعمل #على #أن #تصبح #عاصمة #متوسطية #للثقافة #والحوار
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.