بالعقل نبني سوريا.. ما التخصصات الجامعية التي تتطلبها المرحلة القادمة؟
بعد أكثر من 14 عاماً على الثورة السورية التي أدت إلى إسقاط منظومة الحكم الاستبدادي، تجد سوريا نفسها أمام مفترق تاريخي حاسم: إمّا أن تُعيد إنتاج اختلالاتها البنيوية القديمة، أو أن تعيد ابتكار ذاتها بوصفها دولة مواطنة، وقانون، واقتصاد منتج، ومجتمع متماسك. ويبدأ هذا المسار من التعليم، فالمعرفة التي تُدرّس اليوم ستتجسّد سياساتٍ، ومؤسسات، ومشاريع تنموية بعد سنوات قليلة فقط.
من هنا تبرز ضرورة طرح سؤال “أي تخصصات جامعية تحتاجها سوريا المستقبل؟” في ضوء حاجات إعادة الإعمار المادي، وترميم النسيج الاجتماعي، وبناء الدولة، وتعزيز موقع البلاد في الاقتصاد العالمي الرقمي والأخضر.
العلوم الإنسانية رافعة للتماسك الاجتماعي وإعادة بناء الدولة
تختزن سوريا اليوم أحد أعلى معدلات الصدمة الجماعية في العالم المعاصر؛ إذ إن كثيراً من السوريين تعرضوا لشكل من أشكال العنف المادي أو النفسي، وأن اضطراب ما بعد الصدمة يصيب الشباب السوري بشكل واضح. بناء عليه، يبرز علم النفس والإرشاد النفسي المجتمعي كتخصصين محوريين، فهما يوفّران الكوادر القادرة على تأسيس خدمات الصحة العقلية في المدارس، والمراكز المجتمعية، والسجون، وفي برامج إعادة تأهيل المقاتلين السابقين، بما يضمن تفكيك دورات العنف بدل تدويرها.
إلى جانب ذلك، تحتاج سوريا إلى علماء اجتماع يدرسون البُنى المحلية الجديدة التي نشأت خلال سنوات التفكك، مثل لجان الأحياء، والمجالس المدنية، والمنظمات غير الحكومية. فاختصاص علم الاجتماع التطبيقي قادر على تزويد صانعي السياسات بقراءات دقيقة لتنوع الحاجات بين شرق الفرات وغربه، أو بين المدن المدمرة والأرياف المهملة، بحيث تُصاغ برامج إنعاش اقتصادي تراعي خصوصيات كل منطقة.
ولا يمكن لسوريا جديدة أن تتجاهل القانون العام والقانون الدستوري، فعملية العدالة الانتقالية تتطلب جيلاً من القانونيين الملمّين بمنظومات حقوق الإنسان الدولية، القادرين على تصميم محاكمات عادلة لمرتكبي جرائم الحرب، وفي الوقت نفسه صياغة دستور مناسب للبلاد، واستقلال القضاء.
يتقاطع القانون مع العلوم السياسية، التي ستأخذ على عاتقها إعداد الكوادر للسلطات المحلية في 14 محافظة. فبعد عقود من المركزية الشديدة، تحتاج المجالس البلدية إلى خبراء في الحوكمة الرشيدة، والموازنة التشاركية، وآليات الرقابة الشعبية.
أما الاقتصاد، فيفرض نفسه تخصصاً إنقاذياً؛ فحجم الدمار المادي، ومستوى البطالة المرتفع، ومستوى التضخم، يستدعي جيلاً من الاقتصاديين المتخصصين في اقتصاد ما بعد الحرب، وإدارة الدين العام، واقتصادات التحويلات المالية من الشتات. كما تحتاج سوريا إلى خبراء في الاقتصاد الأخضر لتأمين تمويلات دولية لمشاريع الطاقة المتجددة، وفي اقتصاد البيانات لجذب شركات التكنولوجيا الناشئة، مستفيدة من وفرة رأس المال البشري في الشتات.
في هذا الإطار، يقول الباحث في الشؤون السياسية والاجتماعية بسام السليمان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “تحتاج سوريا العديد من التخصصات، وعلى رأسها علم الاجتماع، علم الاجتماع السياسي، الإحصاء، إلى جانب ضرورة الاهتمام بمهارات أخرى مثل الحوار، وصناعة السلام وغيرها”.
العلوم التكنولوجية وتحدي الإعمار الأخضر والتحول الرقمي
إذا كانت العلوم الإنسانية تؤسس للعقد الاجتماعي الجديد، فإن العلوم التكنولوجية تمنح هذا العقد أدوات التنفيذ. وفي مقدمتها تبرز الهندسة المدنية وإدارة المشاريع، لأن إعادة إعمار الوحدات السكنية المدمَّرة أو المتضررة، وآلاف المدارس، ومئات المستشفيات، تتطلب مهندسين يملكون خبرة في معايير البناء الزلزالي، وتقنيات البناء السريع منخفض الكلفة، والمواد الصديقة للبيئة. لكن إعادة البناء دون مراعاة التحول الحضري والعصري ستكون وصفة لكارثة مستقبلية، لذا يصبح دمج الهندسة المدنية مع العلوم الأخرى الحديثة شرطاً أساسياً.
ثم تأتي هندسة الطاقة المتجددة في الصدارة، مدفوعةً بواقع أن محطات التوليد الحرارية في وضع حرج، وأن خطوط وآبار الغاز الرئيسية تضررت بشدة. ولأن سوريا تمتلك أكثر من 300 يوم مشمس سنوياً في معظم مناطقها، وأحزمة رياح قوية في البادية وحوض الفرات، يصبح الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح خياراً استراتيجياً لا يقل أهمية عن أي مشروع سيادي آخر. ولهذا ستحتاج البلاد إلى جامعات تُخرّج مهندسين قادرين على تصميم حقول كهروضوئية وهيدروليكية، وتشغيلها وصيانتها محلياً.
لا يقل إلحاحاً تخصص هندسة المياه وإدارة الموارد المائية، فقد أدى تغيّر المناخ، وسوء إدارة السدود خلال الحرب، وتلوّث المياه الجوفية، إلى تراجع حصة الفرد من المياه دون خط الفقر المائي العالمي. إن خبراء الهيدرولوجيا وهندسة الري سيكونون العمود الفقري لسياسات الأمن المائي، ولا سيما في حوضي الفرات والعاصي، وفي مشاريع تحلية المياه الساحلية.
في موازاة البنية التحتية المادية، تقف علوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي على رأس التخصصات التي ستقود الاندماج في الاقتصاد العالمي. فمن دون منصات رقمية للحكومة الإلكترونية، وسجل مدني رقمي موحّد، وبنية تحتية للأمن السيبراني، ستظل مؤسسات الدولة عرضة للشلل والفساد. وبما أن عدداً كبيراً من السوريين يقيمون خارج البلاد، فإن رقمنة الخدمات تسمح بتواصل آمن مع الشتات، واستثمار تحويلاته المالية. كما يمكن لقطاع الشركات الناشئة في تكنولوجيا المعلومات أن يخلق آلاف فرص العمل خلال السنوات المقبلة إذا توفرت كوادر مختصة في علم البيانات، وتطوير البرمجيات مفتوحة المصدر، وأمن الشبكات.
ولا تكتمل منظومة التكنولوجيا دون الهندسة الطبية الحيوية، خصوصاً أن النظام الصحي خسر الكثير من بنيته وكوادره المتخصصة. إن تصنيع الأطراف الاصطناعية منخفضة الكلفة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتطوير أجهزة تشخيص متنقلة للأرياف، سيخفّض فاتورة الاستيراد ويُحسّن نوعية حياة عشرات الآلاف من مصابي الحرب. وهنا يتقاطع التخصص مع علوم المواد المتقدمة والميكاترونيكس.
وتبرز كذلك التقانات الزراعية الدقيقة (AgriTech)، فالأمن الغذائي مهدد بتقلّص الأراضي الصالحة للزراعة بنسبة كبيرة، وارتفاع كلفة الأسمدة، وهجرة اليد العاملة. إن استخدام الاستشعار عن بُعد، والطائرات المسيّرة، ونماذج الذكاء الاصطناعي لتوقع المحاصيل، يمكن أن يزيد الإنتاجية بنسبة كبيرة.
التكامل بين العلوم الإنسانية والتكنولوجية
التخصصات المذكورة أعلاه لا تعمل في جزر منعزلة، فمهندس الطاقة المتجددة يحتاج إلى اقتصادي يفهم تمويل الكربون، ويحتاج كلاهما إلى قانوني يُنظّم عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإلى عالم اجتماع يقيس أثر المشروع على المجتمعات المحلية. هذا يعني أن المناهج الجامعية لا بد أن تتبنى نموذجاً عابراً للتخصصات (Interdisciplinary)، يربط مساقات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بمساقات العدالة الانتقالية الرقمية، أو يزاوج بين تصميم المدن ودراسات الذاكرة.
تحدّيات تطبيق استراتيجية التعليم العالي وآليات تجاوزها
تواجه سوريا العديد من التحديات في تطوير التعليم العالي وتحسينه، ولعل من أبرز هذه التحديات نزيف الكفاءات، وخصوصاً الأكاديميين السوريين في دول الشتات؛ حيث إن استعادة جزء منهم يتطلّب حوافز تشريعية، وضمانات أمنية، وأجوراً تنافسية مموَّلة من المنظمات الدولية. إلى جانب ذلك، فإن تضرر البنية التحتية الجامعية يستوجب شراكات مع القطاع الخاص لبناء حرم جامعي ذكي يعمل بالطاقة الشمسية، ويضم مسرّعات أعمال، ويوفر التقنيات اللازمة للتعليم. وتظهر مشكلة تمويل البحث العلمي، إذ يكمن الحلّ في صندوق وطني للبحث تموّله نسبة من رسوم إعادة الإعمار الدولية، إضافةً إلى حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في الابتكار. كما أن هناك حاجة لتشكيل لجان خبراء تضم مختصين في علم التربية وممثلين عن النقابات المهنية، لتطوير محتوى تعليمي يستجيب لحاجات البلاد.
دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في تطوير التعليم
إن موازنة الدولة وحدها عاجزة عن تمويل التحوّل المنشود في التعليم، وهنا يبرز دور القطاع الخاص الوطني في إنشاء جامعات غير ربحية، وتمويل كراسي بحثية في الطاقة والمياه والزراعة. أما الشتات السوري، الذي يحوّل سنوياً ملايين الدولارات إلى الداخل، فيمكن أن يستثمر في صناديق وقفية جامعية تضمن استدامة التمويل. وإلى جانب ذلك، يستطيع المجتمع المدني لعب دور الجسر بين الأكاديميين والسكان المحليين، عبر برامج خدمة مجتمعية تُلزم طلاب علم النفس مثلاً بتقديم جلسات دعم في مخيمات النازحين، أو طلاب الهندسة بتطوير حلول مياه في القرى العطشى، وهكذا.
في هذا الإطار، يقول الباحث بسام سليمان: “يمكن للقطاع الخاص أن يلعب دوراً كبيراً، خصوصاً في ظل وجود قطاع عام متهالك، كما يمكن لرؤوس الأموال القادمة من الخارج أن تؤسس جامعات تكون قادرة على استقطاب أكاديميين جدد من الخارج، وتقديم علوم ومختبرات مجهزة بمعدات متطورة، بالرغم من أن ليس جميع السوريين سيكونون قادرين على الدراسة في هذه الجامعات، لكن القسم الذي سيتمكن من الدراسة بها سيكون له أثر إيجابي لاحقاً، وذلك ريثما يتم إنعاش القطاع العام”.
خارطة طريق تنفيذية لتطوير قطاع التعليم العالي
في ظل التحديات التي يعاني منها قطاع التعليم، يمكن إعلان “رؤية التعليم العالي 2035” بوصفها خطة تتبناها الدولة، وتُلزم الحكومات المتعاقبة بأهداف كمية، مثل مضاعفة نسبة الملتحقين بالتعليم التقني، وزيادة نشر الأبحاث في الدوريات المفهرسة، وزيادة عدد الاختراعات، وغيرها.
كما يمكن إنشاء “المجلس الوطني للمهارات المستقبلية” بعضوية الوزارات، والجامعات، واتحاد الصناعات، ومجالس المحافظات، ليُحدّث سنوياً قائمة التخصصات المطلوبة، ويربطها بسوق العمل، وذلك لضمان عدم زيادة نسب البطالة بين الخريجين الجامعيين. ويمكن اعتماد نظام قبول جامعي مرن يتيح للطالب الانتقال بين الكليات ذات الصلة في السنتين الأوليين، بحيث لا يُحبَس مبكراً في تخصص قد يفقد جدواه بعد بضع سنوات. كما يُفيد إطلاق حاضنات ابتكار في كل جامعة حكومية، بتمويل مشترك مع المؤسسات الدولية لإعادة الإعمار والتنمية. ومن المهم أيضاً إدخال مساق “التفكير النقدي” كمتطلب جامعي، لمنع إعادة إنتاج ثقافة الطاعة العمياء التي غذّت الاستبداد السابق أثناء حكم نظام الأسد المخلوع.
بشكل عام، إنّ سؤال التخصصات الجامعية ليس ترفاً أكاديمياً في سوريا ما بعد سقوط النظام، بل هو رهان وجودي على مستقبل دولة أنهكتها الحرب، وأفرغها الاستبداد من كفاءاتها، وأحاطها عالم يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة. فالعلوم الإنسانية تطوّر الإنسان، وتبني جسور الثقة بين المكوّنات، وتضع الأسس القانونية والسياسية للعدالة والمواطنة. والعلوم التكنولوجية تعيد بناء الحجر، وتنقذ الماء والهواء، وتربط الاقتصاد السوري بشبكات الطاقة الخضراء والرقمنة العالمية. وبينهما، يقف جيل جديد من السوريين — طلاباً وأساتذةً وباحثين — ليكتبوا فصلاً مختلفاً في تاريخ هذا البلد؛ فصلاً تُدار فيه ثرواته بالعقل، وتُحترم فيه كرامة البشر، ويصبح فيه الحلم بالحرية والازدهار معرفةً تُدرَّس قبل أن يكون شعاراً يُهتف. إنّ الاستثمار اليوم في تخصصات علم النفس، والقانون، والاقتصاد، والهندسة المتجددة، والمعلوماتية، ليس مجرد خيار أكاديمي، بل هو اللبنة الأولى في صرح سوريا التي نريدها: سوريا الحرّة، والعادلة، والمزدهرة.
#بالعقل #نبني #سوريا. #ما #التخصصات #الجامعية #التي #تتطلبها #المرحلة #القادمة
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.