على شاشة تلفزيون سوريا.. “حفّار القبور” يرفع القناع ويكشف فصول المقابر الجماعية
كشف “حفّار القبور”، في أول ظهور علني له على شاشة تلفزيون سوريا، عن تفاصيل مرعبة لعمليات دفن جماعية طالت آلاف الضحايا من المعتقلين المعذبين في سوريا، وذلك خلال مقابلات أدلى بها في كل من ألمانيا والولايات المتحدة، حيث تحولت شهادته إلى واحدة من أكثر الشهادات إيلاماً في الذاكرة السورية.
وكشف محمد عفيف بن أسعد نايفة، الموظف السابق في مكتب دفن الموتى بمحافظة دمشق، والذي بات معروفاً إعلامياً بلقب “حفّار القبور”، تفاصيل صادمة حول ظروف دفن جثث المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون ومعتقلات النظام السوري المخلوع، وذلك في شهادة مطولة على شاشة تلفزيون سوريا، سرد خلالها مشاهداته لما حدث بين عامي 2011 و2018.
بداية المهمة
وقال محمد نايفة، هو من حي القدم الدمشقي، في شهادته: “قبل الثورة كنت أعمل موظفاً في مكتب دفن الموتى في دمشق، مهمتي تعبئة وصولات ومعاملات نقل الموتى. في بداية عام 2011 استدعاني مدير الدائرة وأبلغني أن أذهب مع شخصين بلباس مدني إلى مقبرة نجها بريف دمشق. تفاجأت بالطلب، لكني ذهبت معهم دون أن أعلم ما الذي ينتظرني”.
وأوضح في مقابلة خاصة على شاشة تلفزيون سوريا: “عندما وصلنا إلى المقبرة كانت معهم شاحنة تحمل نحو 335 جثة، دفنوها في قبور جماعية معدة أصلاً لدفن شخص واحد، لكنهم كانوا يضعون جثتين أو ثلاثاً حسب حجمها. استغربت مما رأيت ولم أكن أتوقع أبداً أن يتم استخدام المقبرة المدنية كمقابر جماعية”.
انتقال الدفن من قبور إلى خنادق
وأضاف نايفة: “في اليوم التالي طُلب مني الذهاب مرة أخرى إلى نجها، حيث جرى دفن نحو 35 جثة أخرى كانت آثار السحب واضحة على أكياس النايلون التي تحتويها. بعدها طلب مني المدير إحضار عمال للمساعدة، فقلت له إن الأمر يتطلب موافقة المديرية، لكنه أصر على أن أطلبها بنفسي”.
وقال نايفة إنه في المرة الثالثة جلب 17 عاملاً، موضحاً: “عندما وصلنا عرّفني الشخصان المدنيان على نفسيهما بأنهما العقيد مازن اسمندر والعقيد أيمن الحسن من المخابرات الجوية، وكان معهم سيارات دوشكا حول المقبرة”.
وأشار نايفة إلى أنه في تلك المرة “شاهد لأول مرة جثثاً خارج الأكياس، برائحتها الكريهة التي لا تطاق”، مؤكداً أنه لم يكن بوسعه رفض الأوامر الأمنية.
وأوضح نايفة أنه مع ازدياد أعداد الجثث، بدأ العمل بحفر خنادق كبيرة، وقال: “في إحدى المرات وصلت برادات محملة بجثث لم تدفن في قبور صغيرة، بل وضعت في خنادق حفرتها البواقر. كانت الخنادق بعرض مترين ونصف، وعمق من 5 إلى 6 أمتار. عندما فتحوا البراد لم أستطع استيعاب المشهد”.
الانتقال من مقبرة نجها إلى القطيفة
وقال نايفة: “سُلّمت وثائق تضم أعداد الجثث ورموز الفروع الأمنية مثل: 235، 227، 215، 251 وغيرها، وكنت أسجل الأرقام في سجل خاص يمنع فتحه، وتُرسل نسخ منه إلى المحافظة ومشفى تشرين العسكري”.
وأكد أنه “لم يكن من الممكن رفض العمل بسبب سيطرة المخابرات الجوية ووجود عناصر الأمن”، لافتاً إلى أن مقبرة نجها استمرت بالعمل حتى امتلأت في نهاية عام 2011.
وأضاف: “في بداية 2012 أبلغني العقيد مازن اسمندر بالانتقال إلى مقبرة جديدة في القطيفة قرب الفرقة الثالثة العسكرية. كانت الأرض هناك أسهل للحفر من نجها، والخنادق وصلت أطوالها إلى 200 متر”.
وتابع: “كانت تصلنا يومياً برادات من مشافي دمشق مثل المجتهد وداريا والمواساة ومشفى الأطفال وتشرين، تحمل كل منها من 100 إلى 500 جثة. في بعض الأحيان كنا نفتح البراد بواسطة البواقر لسحب الجثث منه مباشرة بسبب عددها الكبير”.
مشاهد صادمة وأطفال بين الضحايا
وأكد نايفة بشاعة طريقة الدفن: “كانت الجثث تُفرّغ بالقرب من الحفر، وعندما تتراكم تبدأ بالتزحلق، والدماء والديدان والروائح الكريهة في كل مكان. بعد ذلك تأتي الجرافات لتطمر الجثث. أحياناً كنا نغطي نصف الخندق بالتراب ونكمل اليوم التالي”.
وبيّن نايفة أن العمل كان منظماً: “الإثنين والخميس من مشفى صيدنايا، الأحد والأربعاء من المجتهد، السبت والجمعة من الأطفال، وغيرها. وكان معي زملاء يعملون في مقابر أخرى مثل مطار المزة والفرقة الرابعة”.
كشف نايفة تفاصيل مؤلمة حول الجثث التي تعامل معها، قائلاً: “من بين الجثث التي رأيتها ودفنتها كانت هناك جثث معارف لي، منهم أصدقاء وأبناء حارتي. ذات مرة رأيت امرأة تحتضن طفلها، وكان واضحاً عليهما آثار التعذيب. لا يمكنني أن أنسى ذلك المشهد أبداً”.
وأضاف: “في إحدى المرات تعرّفت على جثة صديق طفولتي ودفنته بيدي. كما كانت تصلنا من مشفى الأطفال جثث أطفال بعمر أيام وحتى خمس سنوات، بعضها داخل كرتونة أو ملفوفة بقماش. وكنت أعتقد في البداية أن وفاتهم طبيعية، لكنني رأيت بوضوح آثار التعذيب: أذرع مكسورة، جماجم مهشمة، وأحدهم رأيت أثر بوط عسكري مطبوع على صدره وجمجمته”.
وأكد نايفة أن بعض الضباط كانوا يمنعون دفن الأطفال، ويأمرون بترك جثثهم مكشوفة على الساتر الترابي، قائلاً: “عندما كنا نعود في اليوم التالي كنا نجد الكلاب قد نهشت هذه الجثث. كان الأمر بشعاً ومروعاً للغاية”.
أحياء بين الجثث وأطفال تعرضوا للاغتصاب
وروى نايفة إحدى أصعب الذكريات التي واجهته، قائلاً: “في إحدى المرات، حين فتح العسكري باب البراد، وجدنا معتقلاً ما زال حياً. أبلغ الجندي الضابط المسؤول بذلك، فأمره الأخير بربط عينيه ويديه ورجليه ووضعه في الحفرة مع باقي الجثث، ثم أشار إلى سائق الجرافة (التركس) بدهسه حياً. ما زلت أذكر صوت تحطم عظامه بوضوح تام”.
وأضاف: “في مشفى المجتهد، أخبرني طبيب شرعي ذات مرة وهو يبكي، أنهم أجبروا على تزوير سبب وفاة طفلة عمرها سبع سنوات، بالقول إنها توفيت بجلطة دماغية، بينما كانت الحقيقة أن 11 شبيحاً اغتصبوها حتى الموت”.
ووصف نايفة الأثر النفسي الذي خلّفته هذه التجربة القاسية عليه، قائلاً: “في بداية عملي بهذه المهمة، لم أكن قادراً على تناول الطعام أو الشراب لأيام بسبب الاشمئزاز. كنت أرى الجثث في أحلامي، وهي تناديني: (لا تنسَنا، لا تضيّع حقنا). عانيت من إرهاق نفسي شديد، ولم يكن بإمكاني الحديث عما أراه إلا مع شخصين فقط: ابن عمي الذي يعمل قرب مكتبي، وحماتي”.
وأكد نايفة أن عائلته تأثرت بشكل كبير، وأنه اضطر للإقامة في المكتب، مشيراً إلى أن الضباط وفّروا له غرفة نوم ومكتباً بسبب الأوضاع الأمنية.
تنسيق وإشراف مباشر من بشار الأسد
وقال نايفة إن تحركاته كانت دائماً مراقبة، موضحاً: “خطفوا ابني مرتين في منطقة جديدة عرطوز، ووصلتني تهديدات لعائلتي، كانوا يعرفون مكان زوجتي وأولادي بالتفصيل، حتى عندما أرسلتهم إلى بيروت، تلقّيت اتصالاً هددني بأنهم يعرفون مكانهم. شعرت أنني على وشك الجنون”.
وأضاف: “كان ممنوعاً علي الغياب أو الاعتذار أو المرض، وهددوني بأن أتجنب أي نشاط خاص. وأعطوني مهمة تحمل توقيع رؤساء فروع الأمن المختلفة، بمن فيهم علي مملوك، لتسهيل تنقلي بين المكتب والمقابر دون تفتيش”.
وأكد نايفة أنه كان يتعامل بشكل مباشر مع العقيدين مازن اسمندر وأيمن الحسن، واللذين كانا يعملان تحت إمرة العميد عمار سليمان من المخابرات الجوية، الذي كان بدوره على تواصل مباشر مع رأس النظام بشار الأسد، بحسب ما أكده نايفة حين قيل له ذات مرة: “العميد عمار يجتمع الآن مع الدكتور بشار الأسد في مشفى تشرين العسكري”.
وأوضح نايفة أن الضباط كانوا يتفاخرون بينهم بعدد الجثث التي يرسلونها، ويعتبرونها إنجازات يتنافسون عليها.
الخروج إلى ألمانيا وتقديم الشهادة دولياً
وبعد وصوله إلى ألمانيا عام 2018 عبر لم الشمل، بدأ نايفة بكشف ما لديه من شهادات وتفاصيل، وقال في شهادته: “تواصلت مع الناشطة ميسون بيرقدار التي أوصلتني إلى المحامي أنور البني، وقدمت شهادتي في محكمة كوبلنز بألمانيا ضد العقيد السابق أنور رسلان، حيث أخذت المحكمة كلامي على محمل الجد، وكان له أثر في الحكم الصادر”.
وتابع: “بعد كوبلنز، تواصلت معي المنظمة السورية للطوارئ وأخذوني إلى الولايات المتحدة، حيث أدليت بشهادتي أمام الكونغرس الأميركي، ومجلس الشيوخ، والأمم المتحدة في نيويورك، ومراكز دراسات. وأكدت لهم أن العقوبات التي تفرض على النظام يجب ألا تطول الشعب السوري الذي تضرر بشدة منها، ويجب التمييز في ذلك”.
وأكد أن شهاداته ساهمت في فرض عقوبات على شخصيات من النظام السوري مرتبطة بملفات التعذيب والإخفاء القسري.
وفي ختام شهادته، قال محمد نايفة: “رسالتي للمجتمع الدولي هي رفع العقوبات عن الشعب السوري، ومحاسبة النظام أمام محكمة الجنايات الدولية. أنا على استعداد دائم للإدلاء بشهادتي أمام أي محكمة سورية مستقبلية. لقد حملت الأمانة وأوصلت صوت الضحايا، وأتمنى أن أكون قد أديت ما عليّ أمام الله وأهلي وبلدي. لا أريد الشكر، أريد فقط تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين”.
#على #شاشة #تلفزيون #سوريا. #حفار #القبور #يرفع #القناع #ويكشف #فصول #المقابر #الجماعية
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.