السوريون والصخب الفيسبوكي
يدرك أدنى متابع للضجيج الفيسبوكي على صفحات السوريين على مختلف اتجاهاتهم، ما للحدث التاريخي في سقوط نظام الأسد من أهمية كبرى، في رسم حاضر ومستقبل حياتهم وحياة أبنائهم من بعدهم. ولهذا السبب نجد الاشتباكات التي تصل إلى درجة الملحمية في الكثير من الحالات، بين مرحب بالتحول ومشكك به وصامت ينتظر انجلاء الغبار. كل هذا نتيجة ركام سنوات من الكبت والقهر، إضافة لفيض هائل من الآمال المعلقة على هذا السقوط. بغض النظر عما آلت إليه الأحوال بعد فرار أركان النظام الساقط، وما خلفه من دمار في شتى الصعد يصعب حصره بدء من الحجر، وصولا إلى باقي مناحي الحياة الإنسانية البسيطة واحتياجاتها الضرورية وحسب.
تشير المؤشرات الإحصائية إلى أن حضور السوريين عبر منصات التواصل الاجتماعي، تضاعف مرات عدة بدء من نهايات عام 2011، وأصبحت هذه المنصات منبرا سهلا لكل من يريد أن يصنع رأيا عاما، وهذا مع إيجابياته الكثيرة إلا أنه يخلق حالة من فقد التحكم والتحقق من صحة ودقة السرديات، وتصبح الروايات المتداولة والمتضاربة في معظم الأحيان غير ذات قيمة، بالمعنى المعرفي المؤسس لسردية يمكن تبنيها لعموم السوريين، أو للمهتمين بالمشهد السوري. لكن بعد سقوط النظام تضاعف اهتمام السوريين مرات عديدة وصار فضاء منصات التواصل شكلا متقدما ومتاحا لكل من أراد أن يعبر عن رأيه واهتماماته، بحرية كانت لعقود محض حلم، وكما ولدت حصارات الكورونا حالة احتقانا انفجر حين زال ذلك الحصار بسلوك انتقامي للمستهلكين، انتقام من أشهر العزل الطويلة والقاسية، كذلك أحدث سقوط النظام القمعي دفعة واحدة، وبلحظة غير مرتقبة وغير محسوبة حالة شبيهة، يعبر من خلالها المتحررون عن غضبهم من سنوات الكبت وكم الأفواه، بسلوك انتقامي من ذلك الصمت الطويل، هذا السلوك المشروع والمفهوم يحدث في الكثير من الأحيان حالة من فقد التوازن التي تربك صاحبها، وربما تخرجه عن مقاصده الأصلية.
يمكن للمتابع البسيط أن يميز بين تيارات رئيسية تتناول المشهد اليومي السوري، فهناك تيار متفائل ويريد للآمال التي يحملها أن تحظى بفرصتها للتحقق، ولو بشكل تدريجي وبطيء، فهو سعيد بأصغر إنجاز يحصل عليه ولو كان هذا التحصيل لا يتجاوز حدود الراحة النفسية، وانتفاء شبح الرعب اليومي من قتل واعتقال وتسلط كامل على جميع مقدرات حياته البائسة أصلا، وتيار رافض كليا للمجموعة التي تسلمت إدارة البلاد، فلا يجد فيها فعلا مقبولا مهما اجتهدت في أدائها المحدود والمحكوم بالحصار المستمر، هذا التيار تجده قد اتخذ وضعية المراقب المتحفز الساعي لنقد كل حركة ونأمة وتصريح يخرج عن مسؤول في الإدارة الجديدة، بل ربما يشكك في شرعيتها واستحقاقها أصلا، ولا يجد فيها إلا شكلا من أشكال هيمنة التيارات السلفية والجهادية، الأمر الذي لا يسمح له برؤية أية إيجابية لها ولما يمكن أن تعد به، لكن هذين التيارين وإن كانا الأكثر ضجيجا وحضورا على منصات التواصل، شكلا من حيث يريدان أو لا يريدان نواة لحرب إعلامية تدور رحاها كل ساعة، وعند كل حادثة أو صورة أو تصريح يتم تناقله فور صدوره، ناهيك عن التحليلات والإشاعات وما تفعله جيوش الذباب الإلكتروني من تسخين وتشويش في هذا الفضاء، علاوة عن الحرب التي لم تتوقف لساعة واحدة من قبل مؤيدي النظام المخلوع، الذين لم ولن يقبلوا انتزاع الامتيازات التي كانوا يتحصلون عليها اغتصابا من أصحابها، بالرغم من كل هذا إلا أن كلا التيارين بعيدان جدا كل البعد عن نبض الشارع وتطلعات الناس عامة في سوريا، فالسواد الأعظم من السوريين اليوم مهتمون بعودة الحياة بأبسط معانيها وأدواتها “كهرباء، ماء، مواصلات، سلع يومية بأسعار مقبولة، مدارس تنقذ أولادهم من سطوة الشارع المتوحش” ولا يشغلهم الإعلان الدستوري أو تصنيف بعض القادة العسكريين، أو فترة الإدارة الانتقالية بقدر انشغالاتهم اليومية المباشرة تلك.
ساهم غياب الإعلام الحكومي بتعزيز هذه الظاهرة، وصار المتابع يتنقل بين آلاف صفحات التواصل ليصل إلى حقيقة الموقف أو ما يعد به، الأمر الذي زاد الأمر تعقيدا وبلبالا، في الوقت الذي تتناقل فيه بعض الأوساط القريبة أن الإدارة الجديدة، تركت لإعلام النشطاء هذا الفضاء في الوقت الذي تنشغل فيه بمعارك مهمة لم تحسم بعد، هذا الأمر ساهم بشكل كبير في بعض زواياه في كشف مدى هشاشة الهوية الوطنية السورية الجامعة كما يفترض أن تكون، وأصبحت الخطابات
التي تعبر عن الانقسامات الطائفية تجد سبيلها ومبرراتها “بغض النظر عن صحتها” لتزيد من تعقيد المشهد، وبالرغم ما لتلك المنصات من فضائل وايجابيات في تعزيز الشفافية، وإشراك الناس عامة في الشأن العام وشعور ملايين الأفراد بقدرتهم على التعبير بصوت مرتفع، دون خشية الرقيب بعد تكميم أفواههم طيلة نصف قرن من القهر والحرمان، إلا أنه بذات الوقت أتاح انتشارا مؤذيا لخطاب الكراهية، الذي بدأنا نسمعه بشكل واضح وغير موارب والذي لا نأمن تحوله من ظاهرة صوتية إلى ظاهرة تشعل الفوضى في جسد لم يبدأ بعد رحلة التعافي من كوارث الماضي القريب ومخلفاته، سيما أن معظم اللاعبين في هذا الفضاء هم من الشباب، الذين يسهل تجييش الشطر الأكبر منهم وتحشيدهم، فمعظمهم نشأ في أجواء حرب قاسية قتلت براءته وطفولته وجعلت منه كائنا شديد التوتر.
كل ما سبق يعتمد على فهم إيجابي لمواقف السوريين، الذين يمارسون حقهم المشروع بالتعبير عن انفسهم ومواقفهم من جميع السلطات والمظاهر التي يعيشونها، جميع هذا لم يكن لينذر بخطر لولا أن أعدادا غفيرة ممن يسمون فلول النظام البائد وشبيحته، ممن لن يقبلوا أن يكونوا سواسية مع سائر السوريين، بعد أن عاشوا عقودا ينعمون بامتيازات مغتصبة من شعب أعزل، هؤلاء وهم يتلقون تحريضا ودعما أكبر من أحلامهم، لا يفترون عن تلويث تلك الفضاءات بدعوات تكفي لتدمير فرح السوريين وآمالهم، ويختلقون ويؤلفون بطريقة غثة ما يزيد الطين بلة من وقائع مكذوبة أو مضخمة بغية إشاعة الفوضى التي تحميهم من المحاسبة وحكم العدالة، لكن يبقى الأمل كبيرا في أن تستعيد سوريا والسوريون عافيتهم وينهضوا بسوريا جديدة طالما حلموا بها وضحوا من أجلها.
شارك هذا المقال
#السوريون #والصخب #الفيسبوكي
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.