جاري التحميل الآن

في نبوءات النظام البائد وآثارها على الحاضر السوري

في نبوءات النظام البائد وآثارها على الحاضر السوري

في نبوءات النظام البائد وآثارها على الحاضر السوري

تؤثر وسائل الإعلام في الجمهور بطريقة مبرمجة، أطلق عليها خبراء الدعاية مصطلح: “هندسة الجمهور”. وضمن هذا السياق علينا أن نتوقع أن الحكومات حول العالم تحاول – قدر استطاعتها – أن تهندس جمهورها بشكل يخدم الخط السياسي الذي تتبناه، فمن خلال الوسائل الدعائية التي تهيمن عليها الحكومات تستطيع غرس بعض المفاهيم والقناعات التي تمكنها من التحكم بنمط التفكير عند شعوبها.

فبناء الأفكار والتحليل والاستنتاج عند البشر – عموماً – يتمحور حول بعض الثوابت والأفكار والمعتقدات التي تصنف على أنها حقائق لا تقبل الجدال. لكن تلك المعتقدات التي تصنف لدى مجتمعات بعينها على أنها حقائق؛ غالبا ما تكون بنظر الآخرين مجرد أوهام جعلها التكرار والغرس المتعمد تبدو كذلك.

أهمية سوريا

في مقال بعنوان: “عن سوريا .. كذبة أهميتها وموقعها الاستراتيجي” يقول الكاتب عهد الهندي: “نشأ السوريون معتقدين أن بلدهم مطمع للدول الاستعمارية، وأن دول الغرب والإمبريالية الأميركية تتربص بسوريا كي تسيطر عليها نظرا لموقعها الاستراتيجي وثرواتها، لتأتي الثورة السورية ويدرك من خلالها السوريون أن الغرب من ناضلوا تاريخيا لعدم سيطرته المتوهمة على سوريا لم يتدخل فيها رغم دعواتهم العديدة والمتكررة له، ورغم وجود الحجج العديدة لهذا التدخل”.

ولكن هنا لا بد من تسجيل ملاحظة، وهي أن السوريين لم يدركوا هذه الحقيقة رغم أنها شديدة الوضوح، ذلك أنهم كباقي البشر يتأثرون بآلية التحيز التأكيدي بخصوص القناعات الراسخة لديهم. أي، البحث عن المعلومات التي تتوافق مع قناعاتهم، وإهمال المعلومات التي تتنافى مع هذه القناعات. وهكذا يستطيع السوريون الخلط بين أهمية سوريا لدول الجوار واضطرار أميركا إلى التدخل من أجل إدارة الصراع بأقل كلفة ممكنة، وأهمية سوريا بالنسبة للدول الاستعمارية التي هي في الواقع تتحين الفرصة للانسحاب من المشهد السوري تاركة خلفها كنز الثروات الذي يتوهم السوريون بوجوده، في حين يعتقد “ترمب” أن هذا البلد ليس فيه سوى الغبار والدماء.

قناعات خطرة

في الواقع تبدو معظم قناعاتنا نحن السوريون هي مجرد أوهام أراد لها الحكم البائد أن تتحول إلى حقائق لا تقبل الجدال، وكان له ما أراد من خلال تشكيل إدراكنا للواقع. رغم ذلك، تبدو الأطروحة التي تشكك بكل، أو بمعظم ما تلقاه المواطن السوري من وسائل الدعاية للنظام البائد أطروحة غير مقبولة بالعموم، فهو (المواطن السوري) لو صدقها سوف يقع في فراغ معلوماتي ونفسي، ومأزق يصعب تجاوزه. لذلك، وبما أن تجاوز إرث الماضي ضرورة ملحة، وخاصة على المستوى الثقافي والمعرفي، فالقضية تستحق المجازفة، خصوصا إذا علمنا أن بعض هذه القناعات تشكل خطرا على حاضر المجتمع السوري ومستقبله.

وهنا يعتقد أن تبني استراتيجية التدرج التي قد تجعل الصدمة أقل حدة، أو لنقل إنها تتيح إمكانية الإحلال المعرفي على جرعات بدل اقتلاع هذا المخزون دفعة واحدة. من هنا نتساءل: ماذا لو جربنا مثلا التحقق من مقولة “مؤامرات التقسيم”. تلك المؤامرات التي مازالت توحي للسوريين كل يوم بخريطة جديدة لسوريا المقسمة لعدة دويلات، أو تلك التي تعد أخطر القناعات على حاضر السوريين ومستقبلهم.

هل يستطيع أحد الباحثين أن يثبت أن فرنسا وبريطانيا عندما احتلتا دول المشرق العربي بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو” كانتا تنويان التقسيم ثم الخروج؟

أوهام التقسيم

لا أعتقد أنه يوجد فينا من لم يسمع عن مؤامرة “سايكس – بيكو” التي قسمت الوطن العربي إلى الدول العربية المعروفة في الوقت الراهن، كما أنه لا يوجد فينا من لم يسمع عبارة “تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ” آلاف المرات؛ في إشارة إلى إستراتيجية اتفقت عليها دول الغرب التي لن يهنأ لها بال حتى تنفذها. ولكن رغم كل الضجيج الذي أثير حول هذه المقولات؛ يبدو أن القضية لا تعدو عن كونها شعارات تهدف إلى تعبئة الجماهير أحيانا، وتخويفها في أحيان أخرى، فعلى سبيل المثال: هل يستطيع أحد الباحثين أن يثبت أن فرنسا وبريطانيا عندما احتلتا دول المشرق العربي بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو” كانتا تنويان التقسيم ثم الخروج؟ فإذا كانت النية هي الدخول من أجل التقسيم ثم الخروج لصدقت اتهامات مؤامرات التقسيم، أما إذا كانت البقاء في هذه البلدان، فالقضية تندرج في إطار التنافس الاستعماري الذي تقاسم النفوذ في كل مكان (وهذا لا ينفي أن طريقة التقاسم كانت مؤذية). أما بالنسبة لتقسيم المقسم فإن لم يكن إفشال محاولة إقليم كردستان العراق الانفصالية أمام أعين العالم وبمباركته كافيا لنقض هذه النظرية، فإن غياب هذه المحاولات عن سوريا التي أصبحت متاحة للتقسيم، منذ أن بدأت المناطق تتساقط بيد الثوار، هو المثال الأكبر لنقض هذه النظرية.

الطريقة الوحيدة لكسر حلقة “النبوءة المحققة لذاتها” هي أن نعيد تحديد القضايا التي تستند إليها افتراضاتها الكاذبة من الأصل.

النبوءة المحققة لذاتها

يكمن الخطر في معتقد التقسيم أن النظام البائد قد نسج حول هذا المعتقد نبوءة تقول: “إن زوال النظام سوف يفضي إلى تقسيم سوريا”، والخطير في الأمر أنه ثمة صنف من التنبؤات يصدق إذا صدقناه، وهو ما يسمى لدى علماء النفس وعلماء الاجتماع: “النبوءات المحققة لذاتها”؛ ذلك أن هذا النوع من النبوءات يحفز سلوكا من شأنه أن يجعل التصور الزائف يصبح واقعا. وخير مثال على ذلك هو المصرف الذي قد يؤدي ارتكابه لخطئ بسيط أن يتنبأ بعض العملاء بإفلاسه فيبادرون إلى سحب أرصدتهم، ثم يتبعهم الآخرون تحت تأثير ذات النبوءة، فيفلس البنك. وفي بعض الأحيان قد يدفع المتنبئ، أو المؤمن بالنبوءة الأمور دفعا باتجاه تحقيق نبوءته لكي يقول: ألم أقل لكم ذلك؛ كأن يحاول أول من تنبأ بإفلاس البنك أن يعمم مخاوفه على بقية العملاء كي يسحبوا أرصدتهم. وعلى المستوى السوري؛ يعتقد أن نبوءة تقسيم سوريا، إلى جانب نبوءة إبادة مؤيدي النظام قد حفزت أنواعا من السلوك لدى بعض الفئات وضعها في موقف محرج أحيانا، وخطير في أحيان أخرى، فالبعض استسهل فكرة الدعوة إلى الانفصال أو طلب الحماية على أساس أن مخطط التقسيم جاهز، والبعض مازال متقوقعا حذرا، والبعض الآخر حمل السلاح وحرض. ورغم أن كل ذلك لم يجعل نبوءات النظام البائد تتحقق، إلا أنه أربك المرحلة الانتقالية حتى الآن.

يعتقد عالم الاجتماع الأميركي “روبرت ميرتون” الذي يرجع إليه الفضل في صياغة مصطلح “النبوءة المحققة لذاتها” أن الطريقة الوحيدة لكسر حلقة “النبوءة المحققة لذاتها” هي أن نعيد تحديد القضايا التي تستند إليها افتراضاتها الكاذبة من الأصل. وهذا ما نظن أننا سعينا إليه في هذا المقال المقتضب.

 

 

شارك هذا المقال

#في #نبوءات #النظام #البائد #وآثارها #على #الحاضر #السوري

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات