جاري التحميل الآن

سألني جدي.. “شفتي بلدك ما أحلاها؟”

سألني جدي.. “شفتي بلدك ما أحلاها؟”

سألني جدي.. “شفتي بلدك ما أحلاها؟”

كنا قد دخلنا حماة للتو، ولم يكن قد مر كثير من الوقت على رؤيتنا لتلك اللائحة التي رحبت بها حماة لقدومنا.

بدأ أبي بتسجيل فيديو ليتوقف فجأة ويقول: “هاد شارع العلمين، والله كأنو دكانة جدي من هي الدخلة”. ضحكنا بالتأكيد، فكيف لأبي المهجر من حماة لأكثر من أربعين عاماً أن يتعرف على الطريق المؤدي لدكان جده!
دكان أبو وليد صبحة، وجدنا تلك اللافتة، وذاك الدكان والشارع الشاهد على طفولة أبي. ووقف هو في منتصف الشارع ينظر يمنة ويسرة في محاولة لاهفة ليتعرف إلى هذه الحارة، وعلى بيت جده. يجوب ببصره في المكان الذي اقتلعوه منه.

لا أعرف كيف وصل أبي لدكان جده، ولكني أحب أن أقتبس ما قالته العمة أحلام التي قتل الأسد زوجها في مجزرة حماة حين كانت ابنة الثامنة عشر ربيعاً وبيدها ثلاثة أطفال، أتذكرها حين قالت: “الواحد يا عمتي بتضل حارته بدمه، والدم بيحن يا عمتي، الوطن مافي متله”.

لم أكن أعي ما حرمت منه، ففي لحظات تجمع أبناء عمومة أبي وأعمامه، رأيتهم يركضون تجاهه بلهفة ويستقبلهم بالحماس والتوق ذاته، لأرى أبي وللمرة الأولى محاطاً بعشرات الرجال من آل منجد، لأول مرة لا نكون الوحيدين بل يكون كل من نزورهم هم من عائلة منجد مثلنا. تلك الزيارات المليئة بالبكاء وبالزغاريد التراثية: “أويها وقالوا محمد ابن أخوي ما بيرجع، أويها اجا وطقق الأعادي”.

لا أعرف ما هو السر في احتفاظهم بهذه اللهفة تجاه بعضهم رغم كل العمر الطويل الذي فصل بينهم ؟ وكيف لم يستطع الأسد أن يقتلع هذه المحبة من القلوب؟ فكيف يمكن لعمات أبي اللاتي لم يرينني من قبل أن يحتضنني بهذه الحنية؟ من أين لهن كل هذا الدفء والحنان في بلد قاسٍ؟ كيف لم يستطع الأسد أن يسرقه منهن؟ كيف يمكنهن قول كيفك يا عمتي؟ كيفك يا قلبي؟ بتلك السهولة والبساطة المشبعة بالحب.

كيف تملك العمة هالة تلك النظرات؟ كيف استطاعت بنظراتها التي تحاول توزيعها بيننا نحن وأبي أن تعبر عما تشعر به؟ كيف استطاعت عيناها أن تخبرني أنها تحاول جاهدة أن تلتقط ملامحنا لتحتفظ بها في ذاكرتها، لتحاول جاهدة أن تشبع عينيها منا، أن تعوض العمر الذي سلب منا ومنها.

أما المشهد الآخر الذي سكن قلبي فكان مع العمة أحلام حين بكت وقالت: “حرمن من أهلن، حرمنا منن، حرمنا من أخي الله ينتقم منه.” فما الذي يعوضنا يا عمة عن جمعاتنا الناقصة، ولحظاتنا الضائعة ومن يعوّض جدي وأبي عن عمر طويل ظلوا به غرباء؟

لم أكن أعلم أن البكاء سيكون قادراً على أن يغلب جدي، أراه دوماً صامداً مبتسماً حنوناً وقوياً، حتى سألته ذات يوم أن يحكي لي عن حماة لأني لا أعرف عنها شيئاً، فاحمر وجهه وغرق بالدموع وقال: “الناعورة يا جدو عندها صوت بينسمع في كل مكان، ما نحسن ننام إذا ما سمعناه”.

أسئلة لا تملك إلا الصمت والتأمل جواباً

كيف كان شعور جدي حين التقى بأخيه رضوان في الحج ولم يتعرف على ملامحه؟ هل يشتاق جدي لصوت الناعورة حقاً؟ أم أن ذلك تعبيراً مجازياً عبر به عن شوقه لأهله ومدينته؟

ما هو شعور عمات أبي وهن ينظرن إليه وهو في الخمسين من عمره ومعه ابنتان؟ هل سيستبدلن صورته وهو طفل بهذه الصورة؟ من سيقنع العمة هناء أن أبي لم يعد طفلاً؟ وكيف للعمات سميرة وبهيرة اللاتي ضعف نظرهن أن تتعرفا على ملامحنا التي لم يرينها من قبل؟ كيف استطاعت العمة وفاء رفيقة طفولة أبي الطيران عند معرفتها بقدومنا؟ كيف تمكنت من أن تقفز بسرعة لتحضننا على درجات سلم العمارة؟ كيف تمكنت من أن تزغرد وتبكي في ذات الوقت؟ أما العمة كفاء، فاستطاعت التعبير عن كل عمات أبي حين قالت وهي تنظر بحزن لملامحه: “كبرت يا عمتي. ” فهذة الجملة هي الخلاصة، لقد كبرنا يا عمة، كبرنا وكبرتم ولم ترونا ولم نركم.

وكطفلة لم أع ما أعيشه من ظلم، لم أكن أعرف كيف أشرح لكل من يسألني لماذا لم أزر سوريا من قبل؟ كيف أقول أنني لا أعرف رائحتها ولم أزر معالمها؟ كيف أواجههم بحقيقة أنني لم أر نهر العاصي في حياتي؟ كيف أبرر لماذا اقتلعت من جذوري؟

شارك هذا المقال

#سألني #جدي. #شفتي #بلدك #ما #أحلاها

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات