جاري التحميل الآن

أهلاً بكم في قرية جرف الأحمر

أهلاً بكم في قرية جرف الأحمر

ليست مجرد قرية على الفرات في ريف حلب الشرقي فحسب، بل هي ببساطة تجمّع سكاني “حضري” عمره 12 ألف سنة فهي بذلك أقدم مستوطنة بشرية على سطح الكرة الأرضية.

كلنا ندرك أهمية الدور الذي لعبته سوريا في تاريخ الحضارة الإنسانية لكن هناك مواقع أثرية في سوريا تتجاوز في أهميتها موضوع الحضارة ذاته وتقدم مكتشفات تساعدنا على تلمّس القضايا الفلسفية الكبرى المتصلة بتاريخ الكون ونشأة الحياة على الأرض ودور الإنسان وإنجازاته من حيث هو نوع بيولوجي امتلك الوعي وسيطر على الطبيعة وصنع التلسكوبات العملاقة ليحدّق في المجرّات البعيدة.

في آخر زيارة لي للمكتبة العامة في مدينة ميتس قبل مغادرتي فرنسا استعرت كتاباً صغيراً لأجل تحسين لغتي الفرنسية. الكتاب يخوض في حقلٍ لم يكتب فيه أي باحث في اللغة العربية بعد، وهو التاريخ الكبير أو ما يعرف بالانكليزية باسم The Big History وهو فرع جديد في الدراسات التاريخية يدمج تاريخ الإنسان بتاريخ الكون نفسه فيتعقب الأحداث الكبيرة منذ نشأة الكون قبل أربعة عشر مليار سنة حتى يومنا هذا. وهذا ما فعله الكتاب الصغير الذي استعرته من المكتبة وهممت بقراءته بحماس.

استقرار الإنسان في جرف الأحمر قبل اثني عشر ألف سنة، كما يقول الكتاب، مهّد لانطلاق المدنية والحضارة الإنسانية إذ سرعان ما انتشرت الزراعة وتدجين الحيوان قبل ثمانية آلاف سنة ثم ابتدع الإنسان الكتابة.

فالكتاب لا يتعدى في حجمه سبعين صفحة وهو مليء بالصور. يبدأ الكتاب من لحظة الانفجار الكبير أو نشوء الكون، وهي اللحظة التي يسميها المؤمنون لحظة الخلق. ثم ينتقل إلى لحظة تشكل المجرّات، ومنها إلى نشأة المجموعة الشمسية، ثم يدلف في تسلسل رشيق وممتع إلى تشكل كوكب الأرض وتبرده وصلاحه لنشأة الحياة عليه قبل نحو أربعة مليارات عام.

ومع نشأة الحياة بالطور البدائي تبدأ عملية التطور الدارويني بالحركة ليظهر الإنسان البدائي قبل نحو نصف مليون عام فيروّض النار وينتشر في مختلف بقاع الأرض. ثم وقبل نحو أربعين ألف سنة تبدأ بوادر نشوء الوعي واللغة والتفكير المجرد. وهنا يضع لنا المؤلفون صوراً من الرسوم الأولى التي تركها الإنسان البدائي على جدران الكهوف من ذلك العهد.

بعد ذلك تأتي اللحظة الأجمل في الكتاب والتي شكلت مفاجأة سارّة بالنسبة إلي؛ فقد انتقل المؤلفون للحديث عن قريةٍ فريدة على سطح الأرض اسمها جرف الأحمر تقع على نهر الفرات قرب منبج في سوريا. لماذا جرف الأحمر في هذا التاريخ المقتضب للكون؟ لأن القرية تعتبر بمثابة أول إشارة في “التاريخ الكبير” على استقرار البشر في مساكن دائمة بعد أن كانوا مجرد صيادين متنقلين وجامعين للثمار البرية. فاستقرار الإنسان في جرف الأحمر قبل اثني عشر ألف سنة، كما يقول الكتاب، مهّد لانطلاق المدنية والحضارة الإنسانية إذ سرعان ما انتشرت الزراعة وتدجين الحيوان قبل ثمانية آلاف سنة ثم ابتدع الإنسان الكتابة وبنى المصريون الأهرامات ونجح الفينيقيون في شقّ البحر المتوسط بسفنهم، وتم نقل الحضارة من مركز الأرض في سوريا ومصر والعراق والأناضول إلى كل بلدان العالم.

معظم المواقع المهمة في سوريا اكتشفت عن طريق الصدفة أثناء فتح طرقات أو إجراء مسوحات أثرية مستعجلة قبل بناء السدود الكبرى كسد الفرات وسد تشرين.

أخيراً ينتهي الكتاب بآخر حدث “كبير” وهو في القرن العشرين لحظة هبوط الإنسان على سطح القمر مع الصورة الخالدة لرائد فضاء أميركي وهو يخطو بتؤدة على صخور القمر.

جرف الأحمر قرية معروفة للمؤرخين والمفكرين على مستوى العالم. هناك كتب ودراسات كثيرة عنها بالإنكليزية والفرنسية والعربية. في الكتاب الفرنسي الذي اطلعت عليه صورة لأساسات مساكن بشرية صغيرة تتحلق حول بناء دائري أكبر حجماً يبدو أنه كان له فيما مضى دور طقسي، أو أنه مجرد بناء عام استخدمه القرويون بالتشارك لأغراض لا نعلمها. وقد يكون مستودعا جماعيا لتخزين حبوب القمح والشعير، ما يشير لو كان صحيحاً إلى لُحمةٍ مجتمعية واقتصادية. ليست جرف الأحر القرية الوحيدة في سوريا التي تتجاوز في أهميتها حقل التاريخ وتفتح أبواباً لدراسة الإنسان وبدايات الوعي البشري. هناك مثلاً قرية أبو هريرة في الرقة التي ترتبط بتاريخ تدجين القمح وتطور عادات الطعام عند بني البشر، ومستوطنة تل أسود على نهر بردى قرب دمشق التي لها دور تأسيسي بعلاقة الإنسان بالرمز ونشوء الطقس الديني.

معظم المواقع المهمة في سوريا اكتشفت عن طريق الصدفة أثناء فتح طرقات أو إجراء مسوحات أثرية مستعجلة قبل بناء السدود الكبرى كسد الفرات وسد تشرين. وإذا ما تذكرنا زهد النظام السابق في تطوير سوريا وعزوفه عن الاحتفاء بكل ما يدفع السوريين للاعتزاز ببلدهم وتاريخهم، فسرعان ما سندرك أن سوريا ما تزال تخبّئ الكثير مما يمكن أن تسهم به في فهم أطوار الارتقاء الإنساني ونشوء الوعي وانطلاق التاريخ والثقافة. ولعلّ ولادة سوريا الحرّة يجدد همم البحّاثة والأثريين السوريين لإطلاق حملات تنقيب جديدة في مواقع وتلال لا تُحصى ما تزال تنتظر إماطة اللثام عنها.

شارك هذا المقال

#أهلا #بكم #في #قرية #جرف #الأحمر

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات