ما هو دور المثقف في سوريا اليوم؟
حين تسقط الأنظمة الاستبدادية وتُولد الشعوب من رماد المأساة، لا تعود الكتابة عن المستقبل ترفاً فكرياً، إنما تصبح التزاماً أخلاقياً يفرضه وعي اللحظة، فانتصار الثورة السورية وسقوط نظام الأسد لا يُغلقان فصلاً من العنف فحسب، بل يفتحان على المجتمع السوري باباً من الأسئلة الوجودية الكبرى حول الهوية، والمعنى، وشروط العيش المشترك، وفي هذا المفترق يُطلب من النخبة المثقفة الاشتغال على إعادة بناء الوعي، وتحويل الخراب المعرفي إلى مشروع نهضوي يستند إلى قيم الحرية والعقل والعدالة، فالمثقف فاعل تاريخي، يُعيد كتابة العلاقة بين المعرفة والسلطة والمجتمع، سواء في الداخل الممزق أو في المنافي، ويفكك إرث العنف، ويعيد صياغة ملامح سوريا الممكنة لتكون حقيقة تُبنى بالكلمة والفعل معاً.
أولاً- واجبات النخبة في مرحلة ما بعد الثورة:
ينبغي على النخبة المثقفة، في لحظة ما بعد الكارثة السورية، أن تتحرر من عُزلة التنظير، وأن تُمارس وظيفتها التأسيسية من خلال صياغة خطاب وطني يتجاوز حطام الطوائف وانكسار الهويات المغلقة، والاتجاه نحو هوية سورية مدنية تتسع لاختلاف المكونات، وتُعيد الاعتبار لفكرة الإنسان بوصفه قيمة عُليا، لا مجرد رقم في سردية قومية أو طائفية، إنهم مطالبون بأن يكونوا العقل المؤسس لدستورٍ جديد، بوصفه عقداً قانونياً، وتعبيراً عن ولادة أخلاقية لجمهورية تُحاكم ماضيها وتحتضن مستقبلها، دستور يضمن العدالة الانتقالية، ويؤسس لنظام يزن السلطة بميزان الحقوق ويضبطها بآليات الرقابة والمساءلة، وفي قلب هذا المشروع، تتجلى مهمتهم الكبرى في ترميم النسيج الاجتماعي الذي مزّقته آلة الاستبداد؛ عبر بعث ثقافة مدنية تعيد إحياء المعاني المنسية للتسامح والمواطنة واحترام التعدد، مستخدمين أدواتهم الفكرية في الإعلام والتعليم والنقاش العام، للعمل على رفع سوية التحول المجتمعي؛ لأن زمن ما بعد الثورة يحمل في طياته مخاطر انبعاث فساد جديد مقنّع بأقنعة المعارضة أو النفوذ الخارجي، لذلك فإن النخبة مطالبة باتخاذ مواقف أخلاقية صارمة ضد أي مشروع إقصائي أو مصلحي يعيد إنتاج الاستبداد، أما العدالة الانتقالية، فهي ليست مهمة قضائية فقط، بل هي مشروع ثقافي- إنساني يتطلب توثيق الوجع من دون تحويله إلى وقود للكراهية، وتقديم رواية تحفظ كرامة الضحايا من دون أن تُختزل في خطاب انتقامي، بل تُكتب باعتبارها شرطاً للشفاء الجماعي والتأسيس لزمن مختلف.
ثانياً- كيف يمكن للنخبة أن تكون فاعلة؟
لكي تنهض النخبة المثقفة من ركام إخفاقاتها وتستعيد شرعيتها الأخلاقية والتاريخية في مرحلة ما بعد سقوط النظام، فإنها مطالبة أولاً بتمزيق أقنعة الإنكار والانخراط في عملية نقد ذاتي صارمة لا ترحم التبريرات ولا تستبقي أوهام الطهرانية، فمن دون هذه المراجعة الجذرية لن يكون ثمّة تجاوز حقيقي للمرحلة السابقة. وهذا الوعي لا يمكن أن يولد في عزلة فكرية أو في غرف فردانية مغلقة، بل يتطلب خروج المثقف من صومعته إلى فضاء جماعي يتنفس فيه الفكر عبر شبكات من التعاون والتكامل، لأن المشروع الوطني لا يُبنى بخطاب منفرد، إنما من خلال منظومة من العقول التي تتآزر لتعيد صياغة معنى الوطن، كما أن تجاوز العزلة لا يكون فقط على المستوى النخبوي، بل لا بد من توجيه البوصلة نحو الفئات المهمشة، تلك التي دفعت الثمن الأكبر من الحرب والتهميش، فهُم ليسوا متلقين سلبيين للخطاب الثقافي بل شركاء في صناعته، ولا يمكن لهذا الخطاب أن يبلغهم إلا إذا تحرر من لغته التقليدية وأدواته البيروقراطية، مستفيداً من الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي التي باتت تشكّل مسرحاً مفتوحاً للصراع الرمزي والهيمنة المعرفية، كما يجب على النخبة أن تعترف بمواطن عطبها، وتعيد تعريف مهمتها بوصفها طليعة اجتماعية مسؤولة، لا كياناً معزولاً، وبذلك يمكن أن تكتب فصلاً جديداً من التاريخ السوري القائم على ابتكار أفق إنساني جديد.
ثالثاً- تحديات تواجه النخبة في بناء سوريا الجديدة:
تواجه النخبة المثقفة في طريقها نحو بناء سوريا الجديدة جملة من التحديات الوجودية التي لا يمكن اختزالها في عوائق تقنية أو ظرفية، إذ يمكن وصفها بالاختبارات الحقيقية التي تقيس مدى قدرتها على تحويل الفكر إلى فعل والتصور إلى مشروع، إنّ العمل في فضاء تآكلت فيه المؤسسات وتهاوت فيه الشرعيات لا يُعدّ مجرّد عائق تنظيمي، إنما هو اختبار لمدى إمكانية إنتاج بدائل رمزية ومعنوية تؤسس لسلطة معرفية قادرة على ملء الفراغ من دون الاستسلام له؛ فالمثقف لا يولد داخل المؤسسات، ولكنه يفقد فعاليته حين يعجز عن تحويل ذاته إلى مؤسسة فكر، وإلى جانب هذا الفراغ الداخلي، هناك ضغط خارجي لا يقل قسوة، حيث تتقاطع مصالح إقليمية ودولية في الجسد السوري، وتسعى كل منها إلى قولبة المستقبل وفق أجنداتها الخاصة، ما يستدعي من النخبة أن ترتقي بمواقفها إلى مستوى الرؤية الأخلاقية الواضحة، بعيداً عن الانجرار وراء الاصطفافات الآنية التي تُفقدها مصداقيتها التاريخية، أما المشكلة الكبرى، فهي تمزق النسيج الوطني وانهيار الثقة بين المكونات السورية، بفعل ما خلفته الحرب من فظائع لا يمكن أن تمَّحي من الذاكرة الجمعية، وهو تحدٍ لا يمكن تجاوزه بقرارات سياسية أو بيانات مصالحة، بل بفعل فكري طويل النفس، يشتغل على كشف الحقيقة من دون تشفٍّ، وفتح أبواب المصارحة من دون انكسار، وبناء سردية وطنية تتجاوز الحسابات الضيقة نحو أفق يتّسع للجميع، في هذا كله، يتحدد معنى المثقف بوصفه حاملاً لمسؤولية إعادة بناء المعنى ذاته.
ختاماً: في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتضيع المعاني في ضجيج المنصات، لا يُنتظر من المثقف أن ينخرط في المهاترات اليومية أو يغرق في صراعات رمزية عابرة، بل عليه أن يرتقي بمسؤوليته إلى مقام الفعل المؤسس، فالمثقف الحقيقي لا يستهلك اللحظة، بل يمنحها معنى، ولا يطارد الاصطفافات، بل يُعيد توجيه البوصلة نحو القيم الكبرى: العدالة، الكرامة، والعيش المشترك، ففي مواجهة أنقاض الحرب واستعصاءات الواقع السوري المعقّد، يبرز دور المثقف اليوم كضرورة تاريخية لا تحتمل التأجيل، وكوظيفة أخلاقية لا تُقاس بترف التنظير، بل بمدى الانخراط في إعادة ترميم الوعي الجمعي وصياغة خطاب وطني جامع.
شارك هذا المقال
#ما #هو #دور #المثقف #في #سوريا #اليوم
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.