مستقبل التعددية في سوريا بعد الأسد وتحديات الإدماج السياسي
بعد إزاحة نظام بشار الأسد، يواجه المشهد السوري مرحلة جديدة من التحولات السياسية والاجتماعية، وسط تساؤلات حول مستقبل التعددية الدينية والعرقية في البلاد. وبينما تعهدت الإدارة الجديدة باحترام حقوق جميع المكونات المجتمعية، لا تزال هناك مخاوف بشأن مدى قدرتها على تحقيق اندماج حقيقي وشامل لهذه الفئات في النظام السياسي الجديد.
وفقا لتقرير المجلس الأطلسي، فإن هيئة تحرير الشام عملت، قبل حتى سيطرتها على دمشق، على مد جسور التواصل مع بعض الطوائف والمجتمعات المحلية، لا سيما في إدلب، حيث سعت إلى تطوير علاقات مع قيادات دينية واجتماعية لضمان استمرار الحياة العامة بشكل سلس. وتؤكد مصادر التقرير أن هذه الجهود شملت تمثيلًا سياسيًا محدودًا لبعض الفئات، إضافة إلى إعادة ممتلكات بعض العائلات وتهيئة الظروف لعودة النازحين إلى مناطقهم.
ويشير التقرير إلى أن العلاقة بين هيئة تحرير الشام وبعض المكونات المجتمعية لا تزال محل نقاش دولي، خصوصا في ظل خلفيتها الأيديولوجية. ورغم التحديات القائمة، هناك مؤشرات على محاولات للتهدئة وإيجاد صيغة للتعايش، إذ أجرت الهيئة مفاوضات مع ممثلين عن بعض الأقليات الدينية في مناطق مثل سلمية، طرطوس، مصياف، ونبل، سعياً لضمان إدارة محلية أكثر استقرارا.
ويؤكد التقرير أن هذه الجهود لم تخلُ من تحديات، حيث شهد الساحل السوري عنفا بعد مقتل عناصر من الأمن العام على يد فلول النظام المخلوع. وعلى سبيل المثال، يذكر التقرير أن بعض الأحداث الأمنية الأخيرة في القدموس تسببت في تزايد المخاوف بشأن استقرار المرحلة الانتقالية، إلا أن قيادات محلية تسعى إلى نزع فتيل هذه الأزمات من خلال تعزيز الحوار بين المكونات المختلفة.
يرى المجلس الأطلسي أن قدرة الحكومة الجديدة على بناء نموذج حكم يستوعب التنوع السوري ستكون عاملاً حاسما في نجاح المرحلة المقبلة. ويوصي التقرير بضرورة تعزيز الشراكات بين المؤسسات المحلية والدولية لضمان تمثيل حقيقي لجميع الفئات، إضافة إلى تطوير قنوات دبلوماسية واجتماعية تُسهم في بناء الثقة بين مختلف مكونات
ترجمة التقرير كاملاً:
خلال العام الفائت، وبعد فترة قصيرة من طرد هيئة تحرير الشام لبشار الأسد من سوريا، تعهدت الهيئة باحترام حقوق الأقليات، ولكن منذ أن تولت زمام الأمور في معظم أرجاء سوريا، ثارت مخاوف بعض أطراف المجتمع الدولي تجاه قادة سوريا الجدد الذين يتمتعون بخلفية جهادية، وذلك بخصوص احتمال تقويضهم لحقوق الأقليات أو إقصاء تلك الطوائف واستبعادها عن عملية الانتقال السياسي، وقد ثارت ثائرة تلك المخاوف من جديد إثر العنف الهائل الذي وجه ضد العلويين في الساحل السوري خلال الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، ومع ذلك، ما تزال هنالك بعض بوادر الأمل على الأقل تجاه إشراك بعض الطوائف في سوريا بعد سقوط الأسد.
ثمة أسباب مشروعة للقلق على مستقبل الطائفة العلوية بشكل خاص، إذ في شهر آذار، شن متمردون علويون تابعون للنظام البائد هجوماً مخططاً له ضد قوات الأمن، فأسفر ذلك عن تعبئة قوات الحكومة وفصائل مسلحة مستقلة وطالبي ثأر من السنة رداً على ذلك، حيث تورط هؤلاء في عمليات إعدام جماعية وقتل طال أكثر من ستمئة مدني علوي ومتمرد جرى إلقاء القبض عليه، وذلك على مدار أربعة أيام تقريباً، وما تزال حركة التمرد التي شنتها عناصر تابعة للنظام البائد مستمرة.
إن هذا العنف وعجز الدولة عن السيطرة على قواتها والقوات المستقلة عنها، أذكى من جديد المخاوف بشأن أمان الأقليات، ولكن لا يجوز أن ننظر إلى تلك الأحداث المدمرة كمؤشر على مصير أقليات أخرى، لأن أصل العنف يعود إلى الحقيقة القائلة بأنه خلال الحرب السورية الدموية، شكل الشباب العلويون صلب القوات المقاتلة لدى النظام البائد كما كانوا خزاناً لأجهزة الاستخبارات، لدرجة جعلت الطائفة كلها مرتبطة بالنظام البائد وذلك من خلال سياسات الأسد والسرديات السنية المتطرفة، وهذه الديناميات السياسية والاجتماعية لا تنطبق على غيرهم من الأقليات.
بالنسبة لبقية الأقليات، ثمة مؤشرات إيجابية تفيد بأنهم سيتم إشراكهم في سوريا بعد الأسد، إذ حتى قبل دخول هيئة تحرير الشام إلى دمشق، نجدها قد مدت يدها للأقليات في إدلب لتشارك في الدبلوماسية بطريقة ناجحة راعت حساسياتهم وذلك على مدار خمس سنوات، إذ ذكر زعماء مسيحيون موجودون في إدلب بأن الهيئة بقيت تمد يدها لهم على الدوام، وحدث ذلك في البداية من خلال كبار الشخصيات الدينية، ثم من خلال ملحقين سياسيين جرى تعيينهم لهذا الغرض، ثم عمدت الهيئة إلى تعيين هؤلاء الأشخاص بشكل مباشر وبالتالي ضمنت مشاركة تلك الطوائف بدلاً من أن يتم ذلك عبر حكومة الإنقاذ التي شكلتها الهيئة وغيرها من فصائل المعارضة لتدير إدلب. وهؤلاء الملحقون السياسيون كانوا مدافعين عن الطوائف في المنطقة، وحملوا طلباتهم إلى حكومة الإنقاذ وإلى قوات الأمن التابعة لهيئة تحرير الشام.
ومن خلال ذلك، استعاد المسيحيون في ريف إدلب وبالتدريج منازلهم وأراضيهم وعادوا للعب دور على المستوى العام. كما أوقفت قوات الأمن الهجمات التي تستهدف تجمعات المسيحيين، غير أن عملية المشاركة كانت طويلة ومتعبة، إذ في البداية خشيت قيادات الهيئة من تعرضها لانتقادات لاذعة من قبل المتشددين والشعبويين في إدلب، ولكن بمرور السنين، كبر المجتمع المسيحي واندمج بشكل كبير ضمن مجتمع إدلب وزادت مشاركته في الحكومة المحلية، وبذلك تراجعت مخاوف الهيئة رويداً رويداً.
وبعد أن تطورت الهيئة بفضل تلك التجربة، أخذت تشارك المجتمع السوري وقيادات السوريين في الشتات وذلك قبل أيام من حملتها العسكرية الأخيرة التي شنتها في أواخر عام 2024، إذ أسهمت تلك الحملة الدبلوماسية بضمان توسع الهيئة في سوريا من دون أن تستولي بالقوة على مناطق شاسعة تسكنها أقليات، وأسفرت تلك المناقشات التي قامت خلال الأسبوع الأول من كانون الأول من العام الماضي عن قيام علاقة قوية بين هيئة تحرير الشام ومسيحيي سوريا والطائفة الإسماعيلية كما بدأت حقبة جديدة من العلاقات مع طوائف وجماعات كانت تعتبر في السابق مقربة من النظام البائد.
البداية من نبّل والزهراء
أثار سقوط النظام البائد في حلب خلال شهر تشرين الثاني من العام الماضي هلعاً كبيراً في مدينتي نبل والزهراء الشيعيتين القريبتين من تلك المحافظة، بما أنهما كانتا في السابق محورين لخطوط الدفاع لدى نظام الأسد، ولذلك زعمت صفحات محلية عبر منصة الفيس بوك بأن ألفي مدني شيعي نزحوا من بيوتهم ولجؤوا في البداية إلى حلب ومن ثم إلى مدينة السفيرة، حيث شكل حزب الله وإيران شبكة ميليشياتية قوية، وبحلول الأول من كانون الأول، أضحت السفيرة تحت سيطرة المعارضة بشكل جزئي، وتخلت قوات النظام البائد عن النازحين، ما أسفر عن انتشار الذعر عبر منصة الفيس بوك بخصوص مصير المدنيين. وفي الثاني من كانون الأول، بدأت المفاوضات بشكل رسمي بين هيئة تحرير الشام وزعامات مجتمع النازحين وذلك بشأن عودتهم إلى بيوتهم في نبل والزهراء، وذلك بحسب ما أورده شخص عمل على تسهيل قيام تلك المحادثات.
بدأت المفاوضات بعد أن تمكن أفراد من النازحين من التواصل مع أحد الناشطين السياسيين المقيمين في الخارج، والذي ذكر بأنه ساعد في تخصيص خط لدى المكتب السياسي للهيئة وشارك في الوساطة أيضاً، وسرعان ما تطورت هذه التجربة الأولية إلى تنظيم صغير متعدد الطوائف ضم ناشطين مثلوا مجموعة من المجتمعات التي كانت ما تزال تحت حكم الأسد، وخاصة في مدينتي مصياف وسلمية حيث الغالبية الإسماعيلية، وكان جميع الناشطين متلهفين للمساعدة في تسليم مناطقهم بشكل سلمي.
إلى شرقي حماة..
توسع هذا النهج الدبلوماسي مع تقدم الهيئة نحو شمالي حماة، حيث لعبت مدينة سلمية الواقعة شرقي حماة، دوراً حاسماً في الدفاع عن النظام وذلك لاحتضانها مقار عدد من الميليشيات المهمة التابعة له والتي تنشط في الريف. ولكن ظهرت فيها أيضاً حركة ثورية نابضة تعود أصولها إلى ثمانينيات القرن الماضي، تزعمتها الغالبية الإسماعيلية في تلك المدينة، وعن ذلك يقول أحد الناشطين الإسماعيليين: “الإسماعيليون معارضون للنظام على الدوام، ولكننا نعمل بطرق سياسية ومدنية، بعيداً عن السلاح”. كما تضم سلمية المجلس الإسماعيلي الوطني السوري الذي يدعم ويوجه الطائفة الإسماعيلية في عموم سوريا، وهذه العوامل هي التي فتحت الباب أمام التفاوض مع الهيئة.
وبالحديث إلى زعيمة المجلس الإسماعيلي الوطني، رانيا قاسم، وغيرها من المسؤولين عن الأمن والمجتمع المدني، حول المفاوضات وما أسفرت عنه من علاقات مع الهيئة، تخبرنا قاسم أنه في الثاني من كانون الأول، تواصل المكتب السياسي للهيئة معها لبدء المحادثات، فترأستها برفقة ممثل عن مؤسسة آغا خان وهي منظمة إنسانية إسماعيلية دولية، وشاركت في المفاوضات أيضاً لجنة تنسيق شكلها مركز عمليات الطوارئ التابع للمجلس، وخلال المفاوضات اكتشفت قاسم أنها هي وغيرها من الزعماء يشاركون في تلك المحادثات نيابة عن كل الطوائف الموجودة في منطقة سلمية، وليس فقط عن الإسماعيليين.
وبحسب ما ذكرته قاسم، فقد ركز النقاش على مصير مقاتلي النظام البائد في المنطقة وعلى الطريقة التي ستدخل بها الهيئة إلى مدينة سلمية، وبحسب ما ذكره أشخاص آخرون، فإن المجلس رفض أن يعطي الحماية لأي مجرم موجود في المدينة، ووافق على منح المسلحين مهلة ليقوموا خلالها بتسليم سلاحهم والحصول على بطاقة هوية مدنية مؤقتة، وذلك بدلاً من الخضوع لسياسة التسوية العامة التي تنتهجها الهيئة والتي طبقتها على كامل البلد بعد سقوط الأسد. بالمختصر، لم يقدم المجلس للمجرمين أي غطاء للعفو عنهم، وبالمقابل، جرى الاتفاق على أن يضع المقاتلون التابعون للنظام البائد أسلحتهم عند دخول قطعات الهيئة إلى الطريق الرئيسي وهي في طريقها جنوباً نحو حمص. كما وافقت لجنة التنسيق على إرسال وفد إلى ضواحي سلمية وذلك للقاء مبعوثي الهيئة ومرافقتهم عند دخولهم إلى المدينة.
تعتبر تلك المفاوضات خطوة أولى مهمة في علاقة هيئة تحرير الشام مع الطائفة الإسماعيلية الموجودة في سلمية، إذ بحسب ما ذكرته قاسم، فإن المجلس أمضى الأيام الثلاثة من المفاوضات وهو يكرر على مسامع أهالي سلمية بأن: “المجلس والطائفة لن يقاتلا، وإذا أردتم أن تقاتلوا فالقرار قراركم”، وهذه الرسالة وصلت إلى بعض من أنصع القرى العلوية سمعة، مثل قرية الصبورة، حيث تعاون مع المجلس معتقلان سياسيان علويان سابقان مؤيدان للثورة من داخل قريتهما وذلك على ضمان موافقة المقاتلين في منطقته على وضع أسلحتهم. غير أن المجلس الإسماعيلي نفسه لم يرتبط بأي فصيل مسلح ولم يتواصل مع أي من القيادات العسكرية لدى النظام البائد، إذ أكدت قاسم بأنهم لم يتفاوضوا مع أي فصيل مسلح تابع للنظام البائد أو باسمه.
ولذلك وثقت قيادات الهيئة بالمجلس الإسماعيلي الذي تأكدت من أن له التأثير المطلوب من أجل تهدئة ميليشيات النظام البائد ولضمان دخول الهيئة بشكل آمن إلى المدينة والقرى المحيطة بها، ولهذا لم تحدث سوى مناوشة صغيرة واحدة في قرية تل خزنة على الطريق الجنوبي باتجاه حماة، وما عدا ذلك، لم يحدث إلا تسليم سلمي لشرقي حماة في الرابع من كانون الأول، وذلك بحسب ما ذكره مسؤولون أمنيون محليون وأعضاء في المجلس الإسماعيلي. وبحسب ما ذكرته قيادات إسماعيلية في سلمية وطرطوس، أتى رد نظام الأسد على تلك المفاوضات السريعة عبر إرسال مسؤولين أمنيين إلى المجلس الإسماعيلي في طرطوس وتهديدهم وإخبارهم بأن أقاربهم في سلمية ما هم إلا “خونة”، ولكن النظام انهار قبل أن ينفذ هؤلاء المسؤولون تهديداتهم.
وخلال فترة المفاوضات التي امتدت لثلاثة أيام، قامت مفاوضات أخرى على مستوى فردي، إذ بدأ مقاتلو المعارضة التابعون لكل من الهيئة وغيرها من الفصائل التي تعود أصولها إلى سلمية بالتواصل مع أصدقائهم وأهاليهم الموجودين في قراهم، إذ يتذكر أحد القادة كيف اتصل بأهله عند اقتراب قطعته من شرقي حماة وطلب منهم ربطه بمختار القرية ويعلق على ذلك بقوله: “لم أكن لأخاطر بحمل السلاح ضد أبي أو أخي”، والآن أصبح هذا الشاب رئيساً لمفرزة الأمن العام في الريف المحيط بقريته التي تضم خليطاً من الطوائف، ويعتبر نفسه مسؤولاً عن حماية أهلها بصرف النظر عن طوائفهم.
كان تسليم منطقة سلمية بداية للمحادثات بين الهيئة والمجلس الإسماعيلي، وذلك بحسب ما ذكرته قيادات إسماعيلية، لأن المجلس الوطني يشرف على عدد من الفروع المحلية ومن بينها الفرعان الموجودان في طرطوس ومصياف، وبما أن النظام كان ما يزال يسيطر على غربي سوريا، لذا بدأ المجلس الإسماعيلي بالتفاوض نيابة عن الطوائف الموجودة في تلك المنطقة، ومن جانبها، أنهت الهيئة عملياتها على جبهة مصياف في اليوم الذي تحررت مدينة حماة، وأوقفت تقدمها باتجاه الغرب على تخوم سفوح الجبال التي يسكنها إسماعيليون وعلويون. وذكرت قيادات إسماعيلية بأنهم شرعوا بمشاركة خبراتهم الإيجابية والتعاون مع الهيئة وجهات الاتصال التابعة لها في مدينتي محردة والسقيلبية اللتين كانتا تؤيدان النظام بشكل كبير، واللتين كفتا عن القتال لكنهما بقيتا محاصرتين من قبل الهيئة، وسرعان ما أنهت هاتان المدينتان مفاوضاتهما التي أسفرت عن دخول سلمي لقطعات الهيئة إليهما.
أساس لسوريا الجديدة
يبدو أن المفاوضات الأولية وضعت أساساً متيناً للثقة التي كبرت وتجاوزت سلمية، إذ بحسب ما ذكره أحد قادة المجلس الإسماعيلي في طرطوس، فإن المسؤول العسكري المحلي للهيئة التقى بالمجلس بعد يوم من دخولها إلى طرطوس، إذ يومئذ دعي المجلس لاجتماع عام ضم ممثلين محليين ومسؤولي الهيئة، وخلال ذلك الاجتماع جرى فتح خط جديد للتواصل مع الممثل السياسي للهيئة، وفي الختام دعي الجميع لحضور اجتماعات مع المحافظ الجديد لطرطوس. أي أن كل تلك التطورات حدثت في غضون عشرة أيام فحسب، ويصف أحد المسؤولين الإسماعيليين في طرطوس ما جرى فيقول: “يبدو أن الحكومة الجديدة تحترم الطائفة الإسماعيلية بحق وتجمعها علاقة خاصة بها، إلا أن ذلك كان مفاجأة كبيرة لأننا لم نتحدث معهم ألبتة قبل الآن، وكانت لدينا المخاوف نفسها التي كانت لدى العلويين وبقيت لدينا حتى كانون الأول”.
توضح الحملة الدبلوماسية للهيئة النهج السياسي لقيادتها، والذي تطور على مر السنين عبر التعامل مع الطائفتين المسيحية والدرزية في إدلب، وقد برر قادة الهيئة تلك السياسات الجديدة قبل سنوات على أنها ضرورة سياسية لحكم بلد متنوع مثل سوريا في يوم من الأيام ولشرعنة الحركة بين الأقليات التي لا تعرف عنها شيئاً سوى أنها كانت تابعة لتنظيم القاعدة، ثم صار اسمها جبهة النصرة، فقد بدأت تلك الفكرة التي تقول إنه لا يمكن لسوريا أن تُحكم كدولة إسلامية سنية (بل كدولة متنوعة الأعراق والأديان) خلال الفترة التي أعقبت سقوط الأسد، وذلك على مستوى الإدارة المحلية والأمن على أقل تقدير.
ولذلك، وضعت المفاوضات الأولية مع سلمية أساساً متيناً للتعاون الذي استمر بالنمو والتطور، وكفل للإسماعيليين في مختلف أرجاء سوريا إحساسهم “بالثقة بأنهم سيمثلون بشكل كامل في العملية الدستورية” وذلك بحسب ما ذكره رئيس مكتب طرطوس. هذا، ويلعب المجلس الإسماعيلي في سلمية اليوم دوراً مركزياً في إدارة المنطقة، إذ يعمل على تسهيل المشاركة المدنية والسياسية، وإدارة المتطوعين في قوى الأمن وذلك لمساعدة الشرطة المحلية، إلى جانب استقباله للجنة أمنية مكونة من ممثلين أحدهما مدني والآخر عسكري، وذلك لمعالجة الثغرات الأمنية وأي انتهاكات ترتكبها قوات الحكومة.
أصبحت تلك العلاقات أمتن بكثير في مدينة القدموس الساحلية، إذ بحسب ناشطين إسماعيليين مقيمين فيها، فإن قوة صغيرة تضم متطوعين إسماعيليين صارت تدعم قوات الشرطة التابعة للحكومة نظراً لنقص عدد رجال الشرطة في القدموس منذ كانون الأول الماضي. وقد قدمت قوات الحكومة لهؤلاء المتطوعين أسلحة صغيرة، في حين أن المجلس المحلي الجديد الذي يديره إسماعيليون يتعاون عن قرب مع المختار الذي عُيّن أيام الأسد، وهو أيضاً ينتمي للطائفة الإسماعيلية، بحيث يقومون جميعاً بتنسيق أمور الخدمات والإدارة مع المدير المحلي الذي عينته الهيئة. وقد شارك المجلس أيضاً بالتواصل مع القرى العلوية المحيطة بالقدموس، فعمل كجسر بين الإدارة المحلية الجديدة والعلويين.
وعلى الرغم من تلك الجهود، فإن العلاقة الوطيدة مع الحكومة الجديدة جعلت الإسماعيليين في القدموس هدفاً رئيسياً للعلويين الموالين للأسد الذين قتلوا متطوعين إسماعيليين اثنين لدى قوات الأمن في أواخر شهر شباط، وعضواً في المجلس الإسماعيلي وضابطين لدى جهاز الشرطة التابع للحكومة في السادس من الشهر الجاري. وعند بدء الانتفاضة في آذار، حاول الإسماعيليون حماية قوات الحكومة في المدينة، وتفاوضوا في نهاية الأمر على خروجهم من المنطقة بأمان بعد أن حاصرها المتمردون. ولكن، ونتيجة لذلك، تعرضوا لتهديدات كثيرة من فلول الأسد وصلت إليهم إما مشافهة أو عبر تطبيق واتساب، وذلك “لانحيازهم للحكومة” بحسب ما ذكره أهالي المنطقة. وفي نهاية المطاف، عادت قوى الأمن لدخول القدموس بشكل سلمي بحسب ما ذكره أهاليها، لأن تلك التجربة وطدت علاقتهم بدمشق. ولذلك تطوع كثير من الشبان الإسماعيليين لمؤازرة قوات الأمن التابعة للحكومة، بل إن بعضهم تقدم ليصبح ضابطاً رسمياً ضمن قوات الأمن. وفي تلك الأثناء، ناقش مسؤولون أمنيون محليون فكرة زيادة الرواتب المخصصة لجميع المتطوعين في تلك القوات، وعلى الرغم من الأحداث التي وقعت خلال الأسبوع الفائت، بقي المجلس المحلي للمدينة يعمل كوسيط بين قوات الأمن المحلية والقرى العلوية، إلى جانب عمله في التفاوض على تسليم الأسلحة والمطلوبين من المجرمين.
وفي تلك الأثناء، وصف قادة المجتمع المدني المسيحي في المنطقة الساحلية المتوترة علاقة التعاون مع المديرين الذين عينتهم الهيئة في المنطقة ومع مسؤوليها المعنيين بالأمن بأنها وطيدة ومتينة، وعلى الرغم من أن القلق ما يزال يساور عدداً من الناشطين والقيادات المسيحية في المنطقة بخصوص تأمين الخدمات الأساسية ووضع الاقتصاد والعملية الدستورية، فإنهم ذكروا خلال شهر شباط بأنهم لم يخشوا من الهجمات المباشرة من طرف الحكومة الجديدة بل قلقوا من أن يتحولوا إلى رهينة للعنف المتنامي ما بين فلول الأسد وقوات الحكومة، إذ كان قادة المسيحيين في مختلف أرجاء سوريا من أوائل الرجال الذين تعاونوا مع قوات الأمن الموالية للحكومة خلال الأيام التي أعقبت سقوط الأسد، حيث نشروا عبر صفحاتهم على الفيس بوك صوراً للاجتماعات التي عقدت بين قادة عسكريين وسياسيين وشخصيات دينية في ريف دمشق وحمص وحلب. ومع تصاعد العنف في الساحل خلال شهر آذار، شدد رئيس الطائفة الكاثوليكية في حلب، المطران حنا جلوف، على أهمية توحيد سوريا، وأكد على المعاملة الطيبة التي يتلقاها المسيحيون في مختلف أرجاء البلد، ودعا لمواصلة الجهود الساعية لإدماج كل الطوائف في العملية السياسية بشكل كامل.
لا بد لشبكات وعلاقات الحوار بين الأديان والعمل المدني التي تشكلت مؤخراً أن تلعب دوراً محورياً في رسم شكل سوريا بعد الأسد، ولكن ينبغي على الحكومة الجديدة أن تقدم المزيد لإشراك وتمكين الطوائف مثل الطائفة الإسماعيلية والمسيحية، كما يجب عليها فعل ذلك على المستويين المحلي والدولي وذلك عبر التعاون مع مؤسسات مثل مؤسسة آغا خان (وذلك لتقدم تطمينات للإسماعيليين)، بل حتى مع الفاتيكان (وذلك لتطمئن المسيحيين)، لأن هذه الجهود لا بد أن تسهم في بناء ثقة الشارع بها وزيادة تلك الثقة بين أفراد تلك الطوائف عبر تمثيلها بشكل حقيقي في دمشق، وحتى يتحول ذلك إلى مبرر حقيقي للتفاؤل بشأن مستقبل الأقليات في سوريا.
المصدر: The Atlantic Council
#مستقبل #التعددية #في #سوريا #بعد #الأسد #وتحديات #الإدماج #السياسي
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.