هل الاعتناء بالنفس أكذوبة رأسمالية؟ | سكون
بينما تتصفح مقاطع الفيديو القصيرة على تيك توك أو إنستغرام، يستوقفك مقطع لفتاة رشيقة تستعرض تفاصيل يومها، بداية من الاستيقاظ وترتيب الفراش، ومرورا بغسل الوجه والأسنان، ثم استخدام عدد كبير من مستحضرات العناية بالبشرة والشعر.
ننتقل معها بعد ذلك إلى المطبخ لتحضير إفطار صحي من مكونات عضوية، تتناوله مع كوب القهوة الصباحي، (والذي قد تستبدله بالماتشا أو الشاي الأخضر من أجل خاطر الحياة الصحية) على ضوء شمعة برائحة التوت البري، رغم سطوع ضوء النهار!
وسرعان ما ترتدي ملابس رياضية أنيقة لا يفوتها أن تظهر علامتها التجارية أمام الكاميرا، كي تذهب إلى صالة التمارين لممارسة اليوغا، وكل هذه الخطوات تُقدم تحت عنوان براق؛ العناية بالذات (self care).
هذا المقطع هو مجرد مثال من بين ملايين المقاطع والمقالات والكتب وحلقات البودكاست التي تحمل العنوان ذاته، ضمن ثقافة واسعة الذيوع، تقدم رعاية الذات بوصفها ملاذا يمنحك الفرصة كي تغلق عليك فقاعتك الآمنة، وليحترق العالم في الخارج في مآسيه، المهم أنك بخير والأولوية لسعادتك وراحتك قبل أي شيء.
وفقا لعالم النفس السريري “ماكس فون سابلر”، يمكن من الناحية العلمية أن تكون رعاية الذات مفيدة حقا، فعند الشعور بالتهديد أو الخطر يطلق الدماغ مادة الكورتيزول ويخلق مسارات لتدفق المواد الكيميائية لضمان قدرة الجسم على التصرف بشكل أسرع عند مواجهة ألم أو خطر محدق.
وعادة يبدأ العقل في فتح مسارات جديدة، من خلال تعديل سلوكياتنا، وتبني أنشطة الرعاية الذاتية مثل ممارسة الرياضة أو التسلية، حيث يطلق الدماغ ناقلات عصبية مثل الدوبامين، والأوكسيتوسين والسيروتونين، مما يساعد في تنظيم المزاج وتهدئة القلق والتوتر، ويعزز تبنينا لعادات جديدة أكثر إيجابية في سبيل التكيف.
وبمرور الوقت تضعف المسارات القديمة، وتسيطر المسارات الجديدة، مما يساعدك على إدارة التوتر بطريقة أفضل، وهو ما يجعل بعض المعالجين النفسيين يدمجون استراتيجيات الرعاية الذاتية في خططهم لعلاج القلق والاكتئاب، مع التأكيد على عدم كونها بديلا عن المساعدة النفسية المهنية.
لكن الرعاية الذاتية أو الاهتمام بالنفس، تحولت إلى صناعة ضخمة تبيع وهم السعادة والراحة عبر المنتجات والممارسات الاستهلاكية ووسائل ترفيه وتدليل الذات التي تمنح الأفراد شعورا لحظيا بالرضا.
لكنها في الوقت ذاته قد تعزز من شعورهم بالعزلة، وتضلل أنظارهم عن المعنى الكامن خلف رعاية الذات التي يفترض أن تتجاوز المستويات السطحية الشائعة لتصبح في جوهرها فعلا مقاوما، مما حوّل رعاية الذات إلى مجرد ترس آخر في آلة الرأسمالية العملاقة التي تطحن أرواحنا دون رحمة.

العناية بالذات بين التاريخ والفلسفة
يعرّف قاموس أوكسفورد رعاية النفس بأنها “ممارسة الإجراءات اللازمة للعناية بنفسك والحصول على المساعدة حتى لا تمرض”، بينما تُعرّف منظمة الصحة العالمية الرعاية الذاتية بأنها قدرة الأفراد والأسر والمجتمعات على تعزيز الصحة والحفاظ عليها والوقاية من الأمراض والتعامل مع المرض بدعم أو بدون دعم من مقدم الرعاية الصحية. ويعد تعزيزها وسيلة لتمكين الأفراد والأسر والمجتمعات من اتخاذ قرارات صحية مستنيرة.
وتاريخيا، تبدو ممارسات العناية بالذات ورعايتها قديمة قدم الحضارة الإنسانية؛ ففي مصر الفرعونية على سبيل المثال، أظهرت جداريات المعابد والبرديات القديمة كيف مارس الفراعنة أنشطة مثل تدليك الأقدام للتخلص من التعب.
وقد وصف الطبيب الإغريقي غالينوس الصحة في القرن الثاني الميلادي بأنها ليست نقصا في المرض، بل حالة يمكن تحقيقها من خلال عيش حياة متوازنة، وهو تعريف أقرب ما يكون إلى المفهوم المعاصر عن العافية (Wellness).
كما عُرف أيضا عن الحضارة الإغريقية اهتمامها البالغ بالممارسات الرياضية المختلفة، والأمر نفسه ينطبق على الديانات الشرقية القديمة كالبوذية والهندوسية، وكذلك الديانات السماوية، في الإسلام على سبيل المثال لا يغيب عنا حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الموازنة بين حق البدن والنفس.
فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لعبد الله بن عمرو وقد بلغه أنه يقوم الليل كله، ويصوم الدهر كله، ويختم القرآن في كل ليله فقال “فلا تَفْعَلْ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا”.
وتبزغ أهمية استعادة الأصول الثقافية والمبادئ الفلسفية القديمة لرعاية الذات من أجل فهمها بوصفها مواصلة لممارسات راسخة في الثقافة الإنسانية وليست اختراعا حديثا، وذلك وفقا للفيلسوف الفرنسي “ميشال فوكو” الذي قدم في ثمانينيات القرن العشرين سلسلة من المحاضرات في “كوليج دو فرانس” تستكشف رعاية الذات، مستعيدا جذورها في العصور والسياقات المختلفة بداية من المفهوم اليوناني لها (Epimeleia Heautou).
تركز أعمال فوكو على العلاقة بين السلطة والمعرفة، واستكشاف علاقة الخطاب بتاريخ الأفكار، وقد أكد أن معرفة الذات ليست سابقة على رعاية الذات، وإنما هي “أحد مكونات هذا الاهتمام الأساسي”.
وبالعودة إلى عبارة سقراط المنقوشة على جدار معبد دلفي: “اعرف نفسك بنفسك”، فقد ذكر سقراط -وفقا لفوكو- أن المرء ينبغي أن يعتني بذاته كي يصير مواطنا صالحا، ثم أخذ الانشغال بالذات يستقل حتى صار غاية في ذاته.
ووفقا لفوكو، تصبح معرفة النفس وسيلة لا غاية، وسيلة لفهم الذات وعلاقتها بالآخرين والعالم من حولها، ولتحريرها من ديناميكيات السلطة ولإعادة تشكيل الهوية، وعلى هذا النحو يصبح المعنى الأدق لعبارة سقراط في هذا السياق هو “اهتم بنفسك”.
استكشف فوكو في محاضراته إمكانية تحرر الفرد من ديناميكيات السلطة القمعية التي تمليها عليه الخطابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر ممارسة رعاية الذات، حيث تفرض هذه الخطابات قواعدها على الذات نظرا لارتباطها بالسلطة التي تملك القوة لفرض تصورها عن الحقيقة واللاحقيقة، أو المشروع والممنوع.
ووفقا لفوكو، تشكل رعاية الذات ممارسةً مدى الحياة، لكنها لا تتطور إلى انسحاب من العالم، بل إلى علاقة مكثفة به.
وهي ليست انغماسا في العزلة، لكنها ممارسة اجتماعية تشكل فيها علاقة الفرد بالآخرين مكونا أساسيا في علاقته بذاته، وهي ليست سعيا سطحيا للرفاهية، وإنما التزام عميق بفحص الذات ورعايتها يسمح للأفراد بمقاومة معايير السلطات القمعية وتنمية هويتهم الأخلاقية الخاصة.
والحق أن هذا الفكرة كرست مفهوم العناية بالنفس والانشغال بها، ونقلته إلى أبعاد فلسفية أسهمت كثيرا في تكريس الأنانية، واغتراب النفس عن محيطها.
“رعاية نفسي ليست انغماسا في الذات، بل هي حفاظ عليها، وهذا عمل من أعمال الحرب السياسية”
أودري لورد في كتابها “انفجار الضوء”
ثم جاءت حقبة الستينيات بكل ما فيها من زخم لحركات التحرر العالمية، والحراك النسوي وحركات مقاومة العنصرية، لتشهد تكريس رعاية الذات كفعل جذري لمقاومة القمع. فأصبحت الرعاية الذاتية من هذا المنطلق رد فعل على قصور المؤسسات الصحية والنظام الذي أدار ظهره للفئات المهمشة من المجتمع.
وتتضح أهمية رعاية الذات في هذا السياق بشكل خاص في المجتمعات التي تعاني من القمع الممنهج والتهميش، والعيش في ظل أنظمة سياسية لا تُعنى بالعدالة في توفير خدمات الرعاية الصحية، وفي هذه الحالة تصبح رعاية الذات مسألة حياة أو موت، ويغدو الاهتمام بالجسد والروح والعقل فعلا أساسيا لمقاومة القمع. لكن المفارقة أن ما بدأ كفعل سياسي مقاوم، استولت عليه الرأسمالية ليصبح أداة استهلاكية تدعم استمرار الأنظمة الحالية.

صناعة العافية.. الوجه الآخر لرعاية الذات
وما دمنا نتحدث عن التوظيفات التجارية والرأسمالية لمفهوم العناية بالنفس، بدأ يزدهر مفهوم موازٍ له، وهو العناية بالجسد كمادة وكتلة عضلية، وهو ما يطلق عليه صناعة العافية (Wellness industry).
تشمل صناعة العافية الخدمات والمنتجات المصممة لتعزيز الصحة ونوعية الحياة بمختلف جوانبها الجسدي والبيئي والاجتماعي، مثل: صالات التمارين، ومنتجات الأكل الصحي والمكملات الغذائية، وكلها أمور طيبة وبلا ضرر، أليس كذلك؟
إن النظرة الأولى لا تظهر سوى الوجه النبيل، لكن نظرة أعمق على سوق منتجات وخدمات العافية تكشف عن صناعة زادت قيمتها عن 6 تريليونات دولار، ومن المتوقع أن تنمو إلى قرابة 9 تريليونات بحلول عام 2028.
ظهر مصطلح العافية في ستينيات القرن الماضي عبر سلسلة من 29 محاضرة قدمها رئيس المكتب الوطني للإحصاءات الحيوية في الولايات المتحدة، “هالبرت إل دان”، وكانت أساس كتابه المنشور فيما بعد بعنوان “العافية عالية المستوى”.
وقد ظل تأثير الكتاب محدودا إلى حد بعيد، حتى عام 1975 مع افتتاح مركز موارد العافية في كاليفورنيا، حيث ساعدت النشرة الإخبارية التي تركز على العافية من جامعة كاليفورنيا بيركلي في إضفاء الشرعية على المفهوم.
ورغم حداثته، تشير الكاتبة دانييلا بيلي في مقالها الوعود الزائفة لثقافة العافية إلى مفهوم مشابه ظهر في أوروبا أواخر القرن 19 باسم “إصلاح الحياة” (life reform)، خاصة مع ما أشارت إليه من سمات متشابهة في العصرين، من بينها الثورة التكنولوجية التي تشابه ظروف الثورة الصناعية، وما خلقته من ثروة ووقت فراغ متاحين للطبقة الوسطى، مع الشعور بالاغتراب وانعدام اليقين، والقلق الوجودي من تأثير المجتمع الحضري الصناعي.
في عام 1891 نشر “لويس كونه” كتابه “علم الشفاء الجديد” (Neo Naturopathy: the new science of healing or the doctrine of the unity of diseases)، الذي كتبه بعد رحلة طويلة مع الأمراض المزمنة، حيث شهد معاناة والدته من تعنت الأطباء وسوء معاملتهم، كما عانى هو شخصيا من رحلة مرضه الطويلة، ليصاب باليأس من جدوى الطب النظامي ويقرر اللجوء إلى ممارسات الطب الطبيعي البديلة. ذاع صيت الكتاب، وترجم إلى العديد من اللغات، وسرعان ما افتتح “كونه” عيادة ضخمة طبّق فيها ما توصل إليه في كتابه.
إن هذا النفور من المجتمع الصناعي وما صاحبه من مخاوف بشأن تأثيراته السلبية، بالإضافة إلى انعدام الشعور بالثقة في ممارسات الطب النظامي.
كلها عوامل أدت إلى ذيوع ممارسات مثل التوجه إلى الأنظمة الغذائية النباتية، والامتناع عن تناول الملح والسكر، وزيارة المصحات العلاجية التي توفر مساحة لاستعادة التواصل الإنساني مع الطبيعة، وممارسة الأعمال اليدوية في الهواء الطلق، وهي ممارسات وصفها لويس كونه وطبّقها هو وغيره من المعالجين، في نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20، وقد ظهرت في العديد من الأعمال الأدبية، مثل رواية ” الجبل السحري” لتوماس مان، ومراسلات “فرانز كافكا” الذي عانى هو أيضا من الإصابة بمرض مزمن ولجأ إلى هذه المصحات العلاجية التي وصفها في مراسلاته ويومياته.

من فعل مقاومة إلى وسيلة للانسحاب.. الجانب الاستهلاكي لرعاية الذات
لم تدع الرأسمالية مفهوما نبيلا إلا حوّلته إلى بقرة مدرّة للنقود ودأبت على حلبها. لقد تحولت مفاهيم الرعاية الذاتية والعافية إلى ساحة ضخمة لتسويق منتجات لا تسعى إلا خلف الربح المادي، عبر آليات دعائية ضخمة تحيطنا من كل جانب بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، مما ولد لدينا شعورا زائفا بالحاجة لهذه المنتجات، وحوّلها إلى قائمة طويلة من المهام تزيد من شعورنا بالضغط بدلا من تخفيفه. إذ يعاني غير القادرين من الشعور بالعجز والتهميش والمزيد من العزلة الاجتماعية، أما من يتمكنون من اللحاق بسباق المنتجات اللاهث فسرعان ما يدركون المدى القصير لتأثيرها، مما يوقعهم تحت وطأة الشعور بالندم وعدم الكفاءة.
وبحسب “كارل سيدارستروم” و”أندريه سبايسر”، مؤلفيْ كتاب متلازمة العافية، يأتي الهوس برعاية الذات على حساب المشاركة في المجتمع، وهو ما يعني أن العافية الفردية في شكلها المعاصر أصبحت بمثابة أيديولوجيا تعمل ضد التغيير الاجتماعي، عبر إيهام الفرد بأن ما يشعر به من إرهاق أو توتر لا علاقة له بخلل في بنية النظام من حوله، وإنما هو سوء تكيف فردي يتطلب منه استجابة فردية.
فإذا شعرت بالغضب أو اليأس والإحباط فهذه مشكلتك وحدك، وعليك أن تتحمل مسؤولية حلها، وليس السبب أنك تعيش في صراع دائم مع نظم اجتماعية وسياسية فاسدة أو متحيزة أو لا تمنحك كامل حقوقك.
ووفقا للكاتبين فإن هذه الأيديولوجيا تتيح للأفراد فرصة الاستسلام أمام الأوضاع الخارجية الراهنة، واللجوء إلى مسكنات مؤقتة، بدلا من اتخاذ رد فعل جماعي تجاه الأزمات، ومحاولة إحداث تغيير حقيقي مجتمعي أو سياسي.
وفي كتابها المشار إليه “انفجار الضوء”، دافعت “أودري لورد” الشاعرة والناشطة الأميركية؛ عن الرعاية الذاتية بوصفها فعلا للحفاظ على الوجود والاستمرار في المقاومة، هدفه الحفاظ على الذات لا الانغماس فيها، وهو فعل يشمل أيضا رعاية الآخرين ودعمهم وتلقي الدعم منهم.
لكن رعاية الذات تحولت في السياق الاستهلاكي المعاصر إلى مسعى فردي يعزز عزلة الأفراد عن القضايا التي تسبب معاناتهم، ويتجاهل علاقاتهم بالسياق المجتمعي الأوسع، ويمنحهم مسكنات مؤقتة تطيل أمد دورانهم تحت نير عجلات الرأسمالية الطاحنة.
ومن ناحية أخرى، يفترض هذا الخطاب أن الجميع لديهم فرص متساوية للوصول إلى خدمات الرعاية، متجاهلا عدم المساواة الذي يحرم بعض فئات المجتمع من أبسط الحقوق، مما يحمل الأفراد المسؤولية عن مشكلاتهم بدلا من الأنظمة والحكومات.
“من بين جميع أشكال عدم المساواة، فإن الظلم في الصحة هو الأكثر إثارة للصدمة والأكثر وحشية”
مارتن لوثر كينغ جونيور
رعاية الذات.. هل هي الحل السحري للمعاناة العقلية؟
وفقا للتقرير العالمي للصحة النفسية الصادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2023، قُدِّر عدد المصابين باضطرابات الاكتئاب قبل جائحة كورونا بنحو 183 مليونا، وعدد من يعانون من اضطرابات القلق بنحو 298 مليونا، وهي الأرقام التي قفزت بعد عام 2020 إلى 246 مليون مصاب باضطراب الاكتئاب الرئيسي، و374 مليون مصاب باضطرابات القلق، في عام واحد فقط.
ورغم ذلك يعاني الكثيرون من صعوبة الوصول إلى خدمات الصحة العقلية. وفقا للتقرير نفسه، يقدر عدد من لا يتلقون خدمات الصحة العقلية من المصابين بالذهان بحوالي 71%، حيث لا يتجاوز متوسط إنفاق الدول على الصحة العقلية 2% من ميزانيتها الصحية.
ويوجد أقل من عامل واحد في مجال الصحة العقلية لكل 100 ألف نسمة في الدول منخفضة الدخل، التي يعاني سكانها من أزمات أخرى ترتبط بارتفاع أسعار العقاقير النفسية الأساسية أو حتى عدم توافرها، بالإضافة إلى عدم توافر المعرفة الكافية، والوصم المجتمعي المرتبط بالأمراض العقلية والنفسية.
وفي ظل صعوبة الوصول أو نقص خدمات الرعاية الصحية العقلية والنفسية، أصبح الحل السريع والسهل هو الترويج لرعاية الذات كحل بديل يتجاهل المشاكل الهيكلية للأنظمة الصحية وينقل مسؤولياتها من على عاتق الحكومات إلى الأفراد.
من ناحية أخرى، لا يمكن إنكار أهمية ممارسات الرعاية الذاتية في مجال الصحة العقلية للأسباب نفسها، ففي حال صعوبة الحصول على مساعدة طبية تظهر أهمية القيام بأمور بسيطة تساعد الفرد على التحسن، سواء بمفرده أو بالتنسيق مع أخصائي أو عبر مجموعات الدعم، لكن في هذه الحال يحتاج الفرد للوصول إلى معلومات واضحة وشاملة قبل اختيار الوسيلة المناسبة كي يتمكن من اتخاذ قراره، وكي لا يتسبب في نتيجة عكسية.
وبالرغم من أن استراتيجيات رعاية الذات المستدامة قد تساعد -كما سبقت الإشارة- على تخفيف التوتر والإجهاد، ففي بعض الحالات قد تؤدي إلى نتائج عكسية عندما لا تؤدي إلى التحسن السريع المرجو، وذلك بافتراض قدرة الفرد من الأساس على اتباع هذه النصائح، فبعض اضطرابات القلق والاكتئاب ترتبط بأعراض متعلقة باضطرابات النوم والشهية والإجهاد المزمن، مما يجعل نصائح مثل النوم المبكر وتناول الطعام الصحي وممارسة الرياضة أمورا غير قابلة للتنفيذ بهذه البساطة.
يُظهر هذا الخطاب غير الواقعي عن تأثيرات رعاية الذات على الصحة النفسية؛ المرضَ العقلي باعتباره مشكلة بسيطة يمكن للفرد التغلب عليها بتمارين اليوغا وروتين البشرة، في حين أنه معركة صعبة لها جوانب مختلفة فسيولوجية ونفسية تمتد جذورها أعمق من هذه الحلول السطحية.
فخ العزلة.. رعاية الذات بين الشرق والغرب
اليقظة الذهنية (Mindfullness) إحدى الممارسات الرئيسية في الديانات الشرقية مثل البوذية والهندوسية، كما يزعم بعض الباحثين وجود جذور لها تمتد إلى الديانات السماوية كذلك. وهو مفهوم عاد إلى الرواج مؤخرا بعد أن جُرّد من سياقاته، لتقدر إيرادات شركة “هيدسبيس” (Headspace) على سبيل المثال (وهو تطبيق يقدم مجموعة من تمارين اليقظة الذهنية)؛ بنحو 50 مليون دولار سنويا.
وبالرغم من أن هذا الانتشار أدى إلى سهولة وصول الأفراد إلى هذه الممارسات وزاد من انتشارها، فقد أدى تسليعها لأن تصبح مجرد نسخ سطحية وفارغة من معناها وأصالتها.
كان الرواد الأوائل مثل “كارل يونغ” و”أبراهام ماسلو” قد وضعوا الأسس والمبادئ لدمج المفاهيم الروحية في الممارسات النفسية، وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي وضع “جون كابات زين” حجر الزاوية لبرنامج تقليل التوتر القائم على اليقظة الذهنية عبر كتابه “Full Catastrophe Living: Using the Wisdom of Your Body and Mind to Face Stress, Pain, and Illness”، وهو ما فتح الباب خلال العقود التالية لسيل من الدراسات التي عززت فاعلية استخدام التدخلات القائمة على اليقظة الذهنية كأداة لتعزيز الصحة العقلية وتخفيف أعراض القلق والتوتر في علم النفس الغربي المعاصر.
فقد أظهرت دراسات التصوير العصبي أن ممارسة اليقظة الذهنية تؤدي إلى تنشيط قشرة الفص الجبهي، وهو ما يساعد في تحسن الأداء الإدراكي وإدارة الاستجابات العاطفية، كما تؤدي إلى انخفاض نشاط اللوزة الدماغية في استجابتها للتوتر، مما يقلل من مشاعر القلق والتوتر في مواجهة المواقف الصعبة.
ومن ناحية أخرى، تعزز المرونةَ العصبية، وتحسّن الاتصالَ الوظيفي بين قشرة الفص الجبهي والمناطق الحوفية، وهو ما يعني تعزيز تكامل العمليات المعرفية والمرونة العاطفية. لكن على الجانب المقابل، هناك العديد من التشككات تجاه العيوب المنهجية وتحيزات النشر المتعلقة بهذه الدراسات.
ففي مراجعة أجريت عام 2020 وجد الباحثون أنه من بين 7000 دراسة نشرت حول اليقظة الذهنية، هناك 1% فقط من الدراسات فحصت التجارب السلبية والآثار الجانبية المحتملة.
وقد أشارت دراسات أخرى أحدث إلى الآثار الضارة المحتملة والمتعلقة بممارسات اليقظة الذهنية، مثل الإثارة غير المنظمة والقلق والانفعالات المفرطة وضعف الوظيفة التنفيذية. وبحسب دراسة نشرت عام 2021 بعنوان “تحديد وقياس التأثيرات الضارة المرتبطة بالتأمل في البرامج القائمة على اليقظة الذهنية”، فقد كشف نحو 83% من عينة الدراسة عن واحد على الأقل من الآثار الجانبية المرتبطة بممارسة التأمل واليقظة الذهنية، كما أصيب ما بين 6 إلى 14% من العينة بآثار سلبية استمرت لأكثر من شهر كامل.
لقد جردت صناعة العافية الحديثة ممارسات مثل اليوغا واليقظة الذهنية من سياقاتها الدينية والتاريخية، وحولتها إلى سلع تباع عبر الهاتف الذكي، وعبر التطبيقات وقنوات اليوتيوب، وصالات التمارين وإستوديوهات اليوغا، وأصبحت وسيلة فردية للهروب من الواقع.
وما يثير المخاوف هو الاستيلاء الثقافي الذي يهمل السياقات الثقافية الفريدة لكل ما هو غير غربي، ويؤدي إلى إدامة المواقف الاستعمارية، ومركزية نماذج رعاية الذات الغربية ومنحها الأولوية، مع تفريغ الممارسات الثقافية الفريدة من معناها، وتجاهل الفوارق بين الثقافات المختلفة.
فإذا كانت الرعاية الذاتية تؤطَّر في المجتمعات الغربية بوصفها مسعى فرديا، فعلى العكس، غالبا ما تربط الثقافات الشرقية بين رفاه الشخص وعلاقته بأسرته ومجتمعه الأوسع، وتؤكد على قيم التوازن بين الجسم والروح والعقل.
وبحسب العالمة الأنثروبولوجية المتخصصة في دراسات أميركا اللاتينية “مايا راميريز”، فإن ممارسات رعاية الذات في مجتمعات أميركا اللاتينية غالبا ما تدور حول الالتزامات العائلية، حيث يجد الأفراد الإشباع في دعم المقربين منهم، وهو مفهوم مقارب لممارسات الرعاية الذاتية المجتمعية في أفريقيا، مثل احتفالات الشفاء التقليدية والوجبات الجماعية المشتركة التي تصبح أدوات لاستعادة التوازن العاطفي والروحي.
وبالمثل يمكننا رؤية ممارسات مماثلة في الحث على أهمية صلة الرحم في الإسلام، والربط بين العطاء المادي والتطهر الروحي، وهو ما يتضح في الجذر اللغوي للفظ الزكاة، الذي يعني حرفيا التطهر.
وكلها ممارسات تعمل على تعزيز الروابط المجتمعية وخلق إحساس جمعي بالعافية والرعاية، في مقابل التركيز الغربي المعاصر على الخلاص الفردي، والذي يضع السعادة والمتعة وتحقيق الرغبات الشخصية في المرتبة الأولى، ويتجاهل أهمية التواصل مع الآخرين بما يفاقم من عزلة الفرد، وهو ما يعيق مسارات رعاية الذات المستدامة والتي يحتاج فيها المرء إلى مساحة واسعة من منح الدعم للآخرين وتلقيه منهم.
وجانب آخر مثير للقلق يتضح في الخلط بين الصحة والجمال الخارجي، فقد أصبح المظهر الخارجي للشخص مؤشرا على صحته، وهو ما أدى إلى زيادة الهوس بشأن الصورة الذاتية، والذي يتضح في الهوس باللياقة البدنية ليس فقط من أجل الأسباب الصحية، وإنما من أجل الحصول على قوام يلائم الصورة المثالية المتخيلة، مع سيادة الربط بين الصحة الجيدة والنحافة، لتصبح معركة الفرد اليومية مع جسده بدلا من التركيز على صراعاته مع الخارج، وهو ما يتلاءم بشكل أو بآخر مع الجانب التسويقي لصناعة العافية.
وبينما يفرض علينا خطاب الرعاية الذاتية مفهوما استهلاكيا سطحيا، يتجاهل الإجراءاتِ الضروريةَ الأكثر صعوبة، حيث يمكن أن تصبح الرعاية الذاتية الشاملة والمستدامة سبيلا حقيقيا للنمو الشخصي، عبر رعاية مختلف جوانب وأبعاد وجودنا الإنساني الجسدية والعاطفية والدينية والاجتماعية.
تذكّر دائما أن رعاية الذات لا تتعلق بشراء المنتجات الفاخرة، وليست سبيلا لتعزيز الإنتاجية. تذكر أن رعاية الذات ليست أمرا سهلا، وليست علاجا لمشكلاتك النفسية أو العقلية، وهي تتعلق أيضا بأفكارك لا بسلوكياتك فقط، وبقدرتك على الاعتراف بمشاعرك والتعاطف مع ذاتك.
رعاية الذات لا تتعلق بالاختباء خلف قوارير المستحضرات، هربا من أي محاولة تغيير حقيقي قد يهدد استقرار الوضع الراهن رغم كل ما يحمله هذا الوضع من مساوئ، بل تتعلق بالجهد اليومي لمواصلة حياتك في عالم يرغب في بقائك خاضعا، مضللا عن مشكلات النظام، ومنشغلا بمشكلاتك الفردية. وهي التزام ممتد، وليست فعلا قصير المدى، كما أنها ليست انغماسا فيها بل هي فعل مقاومة، يستمسك بأهمية البقاء والصمود، بينما نحيا معاركنا اليومية في ظل أنظمة تسعى لقتلنا بالمعنى الحرفي والمجازي في كل يوم.
#هل #الاعتناء #بالنفس #أكذوبة #رأسمالية #سكون
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.