سقط الأسد، وماذا بعد؟
الخطاب الذي صدّرته السلطة الحاكمة إلى الرأي العام منذ انطلاقة معركة ردع العدوان (27 نوفمبر) كان خطاباً مطمئناً بما ينطوي عليه من استعداد كبير للتحلّل من قيود الأيديولوجيا وتجاوز جدرانها الصلبة، كما كان يحيل هذا الخطاب إلى استعداد بدرجة مقبولة من هيئة تحرير الشام للتحوّل من طور الفصائلية الجهادية إلى طور الوطنية العامة باعتبارها الحامل الحقيقي لمفهوم الدولة.
وقد جسّدت التصريحات المتعاقبة – آنذاك – لقيادة العمليات العسكرية المتمثلة بالسيد أحمد الشرع، ترجمة تركت أثراً طيباً لدى الرأي العام السوري وخاصة فيما يتعلق بعملية التحرير التي لم يدّع الرئيس الحالي للبلاد احتكارها لجهة محدّدة أو فصيل معيّن، وإنما أسداها لأصحابها الحقيقيين بإشارته إلى دور جميع السوريين ممّن قدموا التضحيات سواء أكانوا من المعتقلين أو النازحين وحتى شهداء البحار الذين قضوا بين أمواجها، وذلك عبر مسعى واضح لتفنيد مقولة ( من يحرر يقرر) التي بدأت تتعالى هنا وهناك، وبهذا استطاعت السلطة الحاكمة تَحاشي وتحييد كثير من الانتقادات والاعتراضات التي وُجِّهت لحكومة تصريف الأعمال من حيث انبثاقها من لون واحد، مُعلِّلةً ذلك بضرورة توفّر عنصر الانسجام في العمل بين الفريق الوزاري، باعتباره الفريق ذاته الذي تشكلت منه (حكومة الإنقاذ) في إدلب.
جاء الاستحقاق الثاني الذي انتظره السوريون، بل ربما عوّل عليه كثيرون بأنه سيكون منطلقاً تأسيسياً جديداً للدولة السورية، وسيكون ترجمة حقيقية لمفهوم المشاركة في رسم ملامح سوريا التي يتطلع إليها السوريون، ولكن انعقاد المؤتمر بطريقة مباغتة يومي (24 – 25 – شباط الماضي)، إضافة إلى طبيعة الدعوات ووقائع الحوار وفحوى مخرجاته، بل الأهم من ذلك اللجنة التحضيرية التي اتسمت باللون الواحد أيضاً ووسمتْ معايير الدعوات وفقاً لمزاجيتها، لعل هذا كله قد فتح الباب من جديد إلى تسلّل الشكوك والريبة إلى نفوس شطر كبير من السوريين وربما بدا يؤسس لقناعة توحي بأن المراد من براغماتية الخطاب لدى السلطة هو مجرّد الاحتواء للرأي المخالف والتفافٌ عليه أكثر ممّا هو نزوع فعلي نحو مفهوم المشاركة، كما بدا يشيع الاعتقاد لدى بعض الأوساط السورية بأن المَعني الحقيقي في خطاب السلطة هو الرأي العام الخارجي الذي تحرص القيادة الجديدة على كَسْبه واستثماره باعتباره الخطوة التي تمهّد السبيل لحيازة الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومع الإقرار بمشروعية هذا النهج – وفقاً لكثيرين – إلّا انه بالنتيجة سوف ينتهي إلى تكريس مبدأ الإقصاء والتهميش، بل ربما إلى التفرّد والاستبداد.
ثم جاء الاستحقاق الثالث التي طالما انتظره السوريون بمزيد من الترقّب، وأعني الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى الذي يتطلع إليه الكثير من السوريين، وليس المعني بهذا الاستياء هم المكوّنات العرقية غير العربية أو الطوائف الإثنية فحسب، بل شطر كبير أيضاً ممّن يحرصون على نجاح السلطة في عبورها للمرحلة الراهنة نحو ضفة الأمان.
ثمة تحدّيات هائلة تواجه الحكومة الحالية ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لعل في طليعتها التحدّيات الأمنية التي تتمظهر بأكثر من حالة، بدءً من مواجهة فلول النظام البائد التي أودت بأرواح مئات الضحايا سواء من قوات الأمن العام أو من المدنيين، ومروراً بالمناطق التي ما تزال القوى العسكرية فيها تتردّد بالاندماج بمؤسسات الدولة، وصولاً إلى التحديات الإقليمية التي لم تتوان عن النفخ في النار السورية بغية ازدياد لهيبها، وفي مقدمة تلك القوى إيران وإسرائيل، فضلاً عن
الشطر الآخر من التحدّيات ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية التي غالباً ما تخرج عن سياقاتها القانونية لتصبح سبيلاً للاستثمار والابتزاز السياسي من جانب الدول ذات المصالح في الشأن السوري.
لا شكّ ان هذا المشهد الساخن يُنذر بالانفجار ويرتفع فيه منسوب الخوف لدى غالب السوريين من أن تتحوّل هذه التحدّيات إلى معضلات حقيقية تفتح الأبواب لانفجارات داخل المجتمع السوري من جهة، وتمنح الذرائع للمزيد من التدخلات الخارجية من جهة أخرى.
وحيال هذا الواقع المخيف والمُقلق يقف الفاعلون السوريون عبر أنساق ثلاثة، يتصدّرهم الجمهور العام للثورة، بمن فيهم القوى المؤطرة سياسياً من أحزاب وتيارات وتجمعات وطنية، سواء من القوى الوطنية التقليدية التي سبق تاطيرها انطلاقة الثورة، أو ممّن تشكلت ما بعد 2011 ، ولعل السمة المشتركة لهذه القوى أنها بمجملها أقوى مدنية بعيدة عن التشكيلات العسكرية، ولكنها ناضلت عبر سنوات وجسّدت جانباً من النضال السلمي للسوريين في سبيل التغيير، وهي وإنْ لم تخفِ اختلافها الفكري والسياسي مع القوى الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم، إلّا أنها شديدة في حرصها على المنجز الذي تحقق في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، وهذا ما جعلها تطوي جانباً جميع توجساتها السابقة، وتعمل على دعم التجربة التحررية السورية بعيداً عن أي اعتبارات فكرية أو عقدية، بل يمكن التأكيد على أنها باتت شديدة الاستعداد لتوظيف كل طاقاتها في دعم السلطة الجديدة ورفدها بالخبرات والكفاءات العلمية والمهنية، إلّا أنها – وخلال الأشهر الثلاثة الماضية – كانت تصطدم على الدوام بحائط صدّ من جانب السلطة الجديدة، وهذا الموقف ذاته تكرّر حيال مبادرة العديد من الشرائح المجتمعية الأخرى، كالضباط المنشقين عن النظام والقضاة والفئات المهنية الأخرى.
في حين تقف في الطرف المقابل فئة أخرى ممن لا تجد لها أي مصلحة في عملية التغيير الوطني، فهؤلاء وإن لاذوا بالصمت طوال الأشهر الماضية، إلّا أنهم اليوم وجدوا ما يتيح لأصواتهم أن ترتفع، وقد وجدوا في تعقيدات المشهد السوري فرصة جديدة لممارسة التربّص وتصيّد المواقف بغية الاصطياد بالماء العكر، ولعل الصورة المثلى التي تتجلّى فيها هذه الحالة هي التظاهرة التي خرجت في باريس يوم السادس عشر من آذار الجاري والتي تزعّمها الشاعر (أدونيس) وقد تحلّق حوله رهطٌ من مريديه ومعجبيه، وذلك استنكاراً لما جرى من تجاوزات بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري، والمعروف لدى السوريين أن أدونيس ومن في فلكه قد باركوا للنظام الأسدي قتله للسوريين بكل صراحة ووضوح، ولم يكن لبراميل النظام ولا سلاحه الكيمياوي الذي حصد أرواح عشرات الآلاف من السوريين أي مدخل إلى ضمائرهم التي لا يوقظها من سباتها سوى السعار الطائفي.
وحيال هاتين الفئتين المتباينتين تمضي السلطة الحاكمة في تعاطيها الذي حدّدت مساره منذ اليوم الأول للتحرير، فهي ترفض أي تفاعل إيجابي مع الفئة الأولى بذريعة أنها لا تؤثر التعامل مع الأحزاب أو أي أطر سياسية أخرى، وكان العمل الحزبي رجس من عمل الشيطان. وحتى على مستوى الأفراد فهي ما تزال تؤْثر الاستمرار في الاعتماد على موالي النظام البائد ومؤيديه وخاصة في قطّاع السفارات والمفاصل الحسّاسة من مؤسسات الدولة، على العديد من الشخصيات المنتمية إلى جمهور الثورة من أصحاب الكفاءات والخبرات، علماً أن معظم الراغبين في العمل بالشأن العام يُجمعون على أحقية القيادة الجديدة في إدارة البلاد، ولا أحد يسعى للمنافسة على حيازة القيادة، فما الذي يجعل السلطة أكثر ارتياباً من نظرائها في الثورة؟
لا شك أن عملية (ردع العدوان) جسّدت نقطة تحوّل نوعي في مسيرة هيئة تحرير الشام، ولكي يكون هذا التحوّل شاملاً لسوريا جميعها فهو يحتاج إلى جهود كل السوريين.
#سقط #الأسد #وماذا #بعد
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.