جاري التحميل الآن

فيلم “ترامبي” طويل

فيلم “ترامبي” طويل

إذا كانت السياسة فن الممكن، فقد جعلها دونالد ترمب فن المستحيل، بل وحوّلها إلى سيرك تتطاير فيه الكرات بين يديه، لكنه لا يكفّ عن إسقاطها الواحدة تلو الأخرى. حتى شبكة “فوكس نيوز”، التي لطالما كانت جوقة مادحة لكل زلاته، لم تستطع هذه المرة إلا أن تصف رئاسته بأنها “غارقة تحت الماء”. وكأنها تلميح لطيف بأن السفينة تغرق، لكن لا داعي للذعر، فالقائد مشغول بتصفيف شعره الذهبي أمام المرآة.

هل تذكرون وعوده “السريعة والحاسمة” لحل النزاعات الدولية؟ لا بأس إن نسيتم، فحتى هو يبدو أنه لم يعد يذكرها. بوتين، الذي ظنّ ترمب أنه صديقه المقرّب، قرر أن يُعلّمه درسًا في الجغرافيا السياسية، ورفض عرضه لوقف إطلاق النار في أوكرانيا. ربما اعتقد الرئيس الأميركي أن السياسة الخارجية تُدار بمبدأ “سأكلم فلاديمير، ونتفاهم كرجلين ناضجين”، لكن بوتين، بخبرته الجليدية، كان أكثر دهاءً، تاركًا ترمب يترنّح بين خيارات كلها تؤدي إلى مزيد من الإحراج.

أما غزة، فالحكاية هناك أكثر طرافة. اقترح ترمب وقفًا لإطلاق النار، ثم وجد نفسه يتفاوض مع إسرائيل، التي قررت أنها لا تريد أي “مرحلة ثانية” للاتفاق، بل تفضل إبقاء الأمور معلّقة كما هي. كان المشهد أشبه بمزاد علني يديره الرئيس، لكن المزايد الوحيد كان نتنياهو، الذي رفض كل العروض واستمر في المضاربة على حساب الفلسطينيين. وفي النهاية، انشغلت الإدارة الأميركية بشيء أكثر أهمية: ترحيل طالب فلسطيني من جامعة كولومبيا، بتهمة “معاداة السامية”. وهكذا، أصبحت حرية التعبير في أميركا مسألة قابلة لإعادة التفاوض، تمامًا كما هي سياسته الخارجية: لا ثوابت، بل فقط نزوات ومفاجآت غير محسوبة.

بينما تتراكم الأزمات، يبدو أن ترمب قرر إعادة إنتاج برنامجه القديم “ذا أبرينتس”، ولكن هذه المرة على نطاق وطني. عمليات تسريح الموظفين، إغلاق الشركات، اضطرابات اقتصادية، وكونغرس في حالة صدمة دائمة، كل هذا يحدث تحت شعار جديد: “أنت مطرود!”، لكن الفرق هذه المرة أن المطرودين هم آلاف العمال، والمؤسسات الكبرى، وحتى المنطق السياسي نفسه.

وفي لحظة إلهام غير مسبوقة، قرر الرئيس أن الوقت قد حان لاتخاذ خطوة جريئة على الساحة الدولية: طرد سفير جنوب إفريقيا من واشنطن، بحجة أنه “يكره أميركا”. لم يكن أحد يعلم كيف تم قياس هذا “الكره”، لكن يبدو أن الإدارة الأميركية باتت تمتلك أجهزة استشعار خاصة قادرة على التقاط المواقف غير المرغوب فيها. البعض تكهّن أن السبب الحقيقي له علاقة بمواقف جنوب أفريقيا الأخيرة، لكن البيت الأبيض أكد أن الأمر لا علاقة له بالسياسة الخارجية، بل هو ببساطة جزء من الجهود المستمرة “لجعل أميركا عظيمة مجددًا”. هل يمكن لأي شخص أن يسأل عن الرابط المنطقي بين طرد سفير وانتصار العظمة؟ بالطبع لا، فالتشكيك في قرارات الرئيس أصبح رياضة خطرة، قد تؤدي بصاحبها إلى تهمة جديدة: “إثارة الشكوك في عبقرية القائد، كما لو أننا كنا نتحدث رئيس أعتى دكتاتورية في الشرق الأوسط.

لكن العبقريات الترامبية لا تأتي فرادى، فبعد هذا القرار التاريخي، جاء الإعلان الأكثر إبهارًا: حظر دخول مواطني 43 دولة إلى الولايات المتحدة، بحجة أنهم يشكّلون خطرًا على “النظام الأميركي”. أي نظام هذا؟ لا أحد يعلم، لكن ترمب أكد في تغريدة أن “الأمن القومي أولًا”، وهو مبدأ مقدس لا يمكن المساس به، تمامًا كما لا يمكن المساس بحقيقة أن قائمة الدول المحظورة تضم دولًا لم يسمع بها الرئيس من قبل. المفاجأة كانت أن إحدى هذه الدول كانت كندا، مما اضطر البيت الأبيض إلى إصدار توضيح عاجل بأن القرار لا يشمل “الكنديين الطيبين”، بل فقط “الكنديين الذين يطرحون أسئلة غير مريحة”. وهكذا، أصبح من الضروري، قبل السفر إلى أميركا، أن يثبت المرء أنه يكنّ مشاعر دافئة لسياسات واشنطن، وربما يجتاز اختبارًا جديدًا يتضمن أسئلة مثل: “كم مرة قال ترمب عبارة “ميك أميركا غريت

أغيين” في خطابه الأخير. أو ما مدى سرعة وقوفك للتصفيق عندما يذكر اسم اسرائيل؟

وبينما ينشغل الرئيس بهذه المعارك الداخلية، يقرر أن يلقي نظرة على العالم الخارجي، ولكن بأسلوبه المعتاد: قرّر يوم الخميس الماضي أن يطلب من البنتاغون “استعادة قناة بنما”. ربما كان يظن أن التاريخ توقف في عام 1903، وأن بإمكانه إعادة عقارب الساعة للوراء بجرة قلم. ومن يدري؟ ربما خطوته التالية ستكون شراء غرينلاند، فقد سبق له أن أبدى اهتمامًا بهذه الجزيرة الدنماركية، كما لو كانت قطعة عقار متاحة للبيع في أحد مزادات لاس فيغاس. لكن ترمب لم يكن أول رئيس أميركي يطرح أفكارًا غريبة، الفرق الوحيد أن الآخرين كانوا يدرسون عواقب أفعالهم قبل إطلاق التصريحات. جورج بوش الابن، رغم كل شيء، لم يعلن عن خطط “لشراء” دول بكاملها، وأوباما، مهما كان خصومه يكرهونه، لم يحاول التفاوض مع قادة العالم عبر تغريدات على “تويتر”.”

في النهاية، يبدو أن ترمب لا يريد مجرد قيادة أميركا، بل إعادة اختراعها بالكامل، وتحويلها إلى نسخة أكثر صخبًا، وأكثر اندفاعًا، وأكثر إثارة للدهشة. في أميركا ترمب، الحروب تبدأ بتغريدة، والسياسات الخارجية تُدار كما تُدار صفقات العقارات، والمعارضة تُواجه بالسخرية لا بالحجج.

المشكلة الحقيقية ليست في كونه رئيسًا غير تقليدي، بل في كونه لا يميز بين القيادة والاستعراض. عندما يجلس مهرّج على عرش الإمبراطورية، لا عجب أن تتحول الدولة إلى سيرك عالمي، والضحايا في النهاية ليسوا سوى جمهور لا يستطيع مغادرة عرض هذا الفيلم “الترامبي” الطويل.

#فيلم #ترامبي #طويل

المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇

قد تهمك هذه المقالات