بين الضرورة والجدل.. هل تنجح الخصخصة في سوريا بإنقاذ القطاع العام؟
تشهد سوريا، في ظل التحديات الاقتصادية بعد سقوط نظام الأسد البائد، تحولاً في توجهاتها نحو تطبيق سياسات إصلاحية تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، ومن أبرز هذه السياسات الخصخصة، إذ باتت، في ظل ضغوط تراجع الإنتاجية وفراغ خزائن الدولة من الأموال والعقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، سياسةً استراتيجيةً تتبناها الحكومة الجديدة في سوريا بهدف المساهمة في تحسين الأداء الاقتصادي وزيادة الكفاءة التشغيلية للمؤسسات العامة، ويعتمد هذا التحول على نقل إدارة بعض الأصول التي تملكها الدولة إلى القطاع الخاص، في خطوة يمكن أن تُحدث نقلة نوعية في الاقتصاد السوري، إذا تم تطبيقها بشكل صحيح.
مفهوم الخصخصة وأهدافها
تُعرّف الخصخصة بأنها عملية تحويل ملكية أو إدارة الأصول التي تمتلكها الدولة في القطاع العام – مثل الشركات الحكومية والموانئ والمرافق الحيوية – إلى القطاع الخاص، وتقوم الفكرة الأساسية على تحسين الكفاءة التشغيلية عبر الاستفادة من مرونة وإدارة القطاع الخاص، الذي غالباً ما يكون أكثر قدرة على تطبيق أساليب الإدارة الحديثة وتقنيات الإنتاج المتطورة.
ويهدف هذا التحول إلى تخفيف العبء المالي عن الدولة عبر تقليل الدعم الحكومي وتوفير السيولة اللازمة لاستثمارها في قطاعات أخرى ذات أولوية. كما يُسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية التي يمكن أن تُحدث طفرة في مستوى التكنولوجيا والخبرات الفنية داخل الأصول المستثمَر بها.
ترتكز أهداف الخصخصة على عدة محاور، من بينها: تحسين كفاءة إدارة المؤسسات التي كانت تعاني من البيروقراطية الزائدة، والإدارات التقليدية، والفساد المستشري، والبطالة المقنعة، بالإضافة إلى تحسين جودة الخدمات وتقليل التكاليف، مما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني. كما يُنظر إلى الخصخصة على أنها وسيلة لتخفيف العجز المالي عبر بيع بعض الأصول غير الأساسية أو التي تعمل بخسائر متراكمة، مما يتيح للدولة إعادة توجيه مواردها نحو الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
كيف يتم تطبيق الخصخصة؟
تتطلب عملية الخصخصة إعداداً متكاملاً يضمن تحقيق الأهداف المرجوة من دون الإضرار بالمصلحة العامة أو التأثير سلباً على الاستقرار الاجتماعي. تبدأ هذه العملية بدراسة شاملة لتحديد الأصول أو القطاعات التي يمكن خصخصتها من دون المساس بالخدمات الحيوية، ويتضمن ذلك تقييم الجدوى الاقتصادية والمالية لكل كيان، وتحليل إمكانيات تحسين الأداء في ظل إدارتها من قبل القطاع الخاص.
يلي ذلك إعداد إطار قانوني وتنظيمي يضمن الشفافية، حيث تُعد السياسات والتشريعات المناسبة بمنزلة العمود الفقري للعملية. وفي هذا السياق، تُعتبر آليات التقييم المالي للأصول خطوة مهمة لتحديد القيمة السوقية الحقيقية، مما يمنع حالات المبالغة أو التقليل في التقييم، وهي أمور قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار.
بعد مرحلة الإعداد، تأتي مرحلة التنفيذ، حيث يتم فتح باب المناقصات ودعوة المستثمرين للمشاركة في عملية الشراء أو الشراكة التشغيلية. وفي هذه المرحلة، يلعب النموذج المتبع – سواء كان البيع المباشر أو الشراكة أو طرح الأسهم في البورصة – دوراً حيوياً في تحديد مدى نجاح العملية وتأثيرها على الاقتصاد. وأخيراً، يجب أن تُرافق عملية التنفيذ آليات متابعة ورقابة تضمن التزام كافة الأطراف بالشروط المتفق عليها، وتحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.
وفي هذا الإطار، قال وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في الحكومة السورية، باسل عبد الحنان، في تصريح سابق لوسائل الإعلام: “إن الحكومة تعمل على خطوات حاسمة في إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية في سوريا، وأنه سيتم الانتهاء من الهيكلة الأولية لتقييم الشركات الحكومية بحلول الأول من مارس المقبل”.
وأضاف الوزير عبد الحنان: “إن طرح الشركات الحكومية للخصخصة سيكون مفتوحاً للجميع، سواء للشركات المحلية أو الأجنبية، على أن يتم التركيز في البداية على قطاعات الصناعات الغذائية، والصناعات الكيماوية، والإسمنت، والصناعات الثقيلة”.
ما هي الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للخصخصة في سوريا؟
يُعتبر أحد أهم الدوافع نحو الخصخصة في سوريا تحسين الكفاءة التشغيلية للمؤسسات التي تعاني من الأداء المتردي منذ عقود. إذ إن الانتقال إلى إدارة القطاع الخاص، لا سيما من قبل شركات دولية، يُتيح فرصةً لتطبيق أساليب إدارية حديثة وتكنولوجيات متطورة، مما يؤدي إلى رفع مستويات الإنتاجية والجودة في تقديم الخدمات.
وفي هذا السياق، يمكن اعتبار الخصخصة محفزاً لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تسهم في تنشيط الاقتصاد الوطني وتعزيز ميزان المدفوعات السوري.
تسهم الخصخصة أيضاً في تخفيف العبء المالي عن الدولة؛ إذ إن بيع الأصول أو إقامة شراكات استثمارية مع القطاع الخاص يوفر موارد مالية يمكن إعادة استثمارها في القطاعات الأساسية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. وقد أثبتت التجارب الدولية أن إدخال القطاع الخاص في إدارة بعض القطاعات يؤدي إلى تحسين مستوى الخدمات وتقليل الفاقد في الموارد. كما أن بيئة الاستثمار التي يتم إنشاؤها من خلال تطبيق سياسات الخصخصة تُعتبر عامل جذب رئيسياً للمستثمرين الذين يبحثون عن فرص لتحقيق أرباح، مع إمكانية نقل التكنولوجيا وتطوير الخبرات الوطنية.
يُذكر أن وزير الخارجية أسعد الشيباني، أشار في تصريحاته لصحيفة فايننشال تايمز، إلى أن “الحكومة تخطط لخصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة كخطوة استراتيجية لجذب الاستثمارات الأجنبية، رغم التحديات المالية التي تتمثل في ديون تصل إلى 30 مليار دولار”، مما يعكس إيمان المسؤولين بأهمية الخصخصة كأداة لإحداث نقلة نوعية في الأداء الاقتصادي.
ما هي التحديات والمخاطر التي تواجه تطبيق الخصخصة في سوريا؟
رغم الفوائد العديدة التي قد تحققها الخصخصة والمذكورة سابقاً، فإن العملية لا تخلو من المخاطر والتحديات، خاصة في السياق السوري الذي يشهد حالة من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي؛ إذ يُشكل الوضع الأمني الراهن عاملاً مهماً يؤثر على جاذبية سوريا للمستثمرين، حيث تزيد المخاوف الأمنية والاضطرابات الاقتصادية من حدة التردد في ضخ رؤوس الأموال الأجنبية.
تواجه الخصخصة أيضاً تحديات تتعلق بمستوى الشفافية ومكافحة الفساد؛ فعدم وجود آليات رقابية صارمة قد يؤدي إلى استغلال العملية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة. وقد أظهرت التجارب الدولية في دول مثل روسيا ومصر أن سوء إدارة الخصخصة يمكن أن يؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية سلبية، منها انخفاض جودة الخدمات وزيادة معدلات البطالة.
إضافة إلى ذلك، تشكل حماية الفئات الاجتماعية الضعيفة تحدياً أساسياً؛ إذ قد تؤدي عملية الخصخصة إلى تسريح جماعي للعمال في المؤسسات التي تنتقل إدارتها إلى القطاع الخاص، مما يزيد من معدلات البطالة ويؤدي إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية. هنا تبرز أهمية دمج الاعتبارات الاجتماعية ضمن سياسات الخصخصة، بحيث تُراعى حقوق العمال وتُوفر لهم برامج تدريبية وإعادة تأهيل لضمان استمرارهم في سوق العمل.
دور عقود البناء والتشغيل (BOT) في التنمية كآلية بديلة عن الخصخصة التقليدية
في ظل الحاجة الماسة إلى تطوير البنية التحتية دون تحميل الدولة أعباء مالية مباشرة، تُعتبر عقود البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT) بديلاً فعالاً للنموذج التقليدي للخصخصة. تعتمد هذه العقود على منح القطاع الخاص امتيازاً لتصميم وبناء وتشغيل مشاريع حيوية لفترة زمنية محددة، يستعيد خلالها المستثمر تكاليف إنشاء المشروع ويحقق أرباحه من خلال عائدات التشغيل. وبعد انتهاء فترة الامتياز، تنتقل ملكية المشروع إلى الدولة وفقاً لشروط متفق عليها مسبقاً.
تُعد عقود BOT وسيلة لتخفيف العبء المالي على الدولة، إذ يتحمل المستثمر تكاليف إنشاء وتشغيل المشروع من دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على الأموال العامة. كما تتيح هذه العقود نقل التكنولوجيا وتطوير الكفاءات المحلية من خلال التدريب والخبرات التي يقدمها المستثمرون الأجانب والمحليون، مما يُسهم في رفع مستوى البنية التحتية وجودة الخدمات المقدمة.
إلا أن هذه الآلية ليست خالية من التحديات؛ فهي تنطوي على مخاطر مالية للمستثمر نتيجة لتقلبات السوق والتغيرات الاقتصادية، إضافة إلى احتمال ارتفاع تكاليف التشغيل على المستخدمين إذا سعى المستثمر لتحقيق أرباح مرتفعة.
تعد عقود BOT نموذجاً مثالياً عندما يكون الهدف تطوير مشاريع بنية تحتية حيوية من دون التخلي عن ملكية الأصول للدولة، مما يمنح الحكومة السيطرة النهائية على المشروع بعد انتهاء فترة التشغيل الخاصة بالقطاع الخاص.
هل تتوافق الخصخصة مع الاقتصاد الإسلامي؟
من الأمور الهامة التي تُثار في سياق الخصخصة في سوريا هو مدى توافق هذه العملية مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي؛ إذ يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور مخلص الناظر في منشور له على فيسبوك أن “تطبيق الخصخصة ضمن إطار يتماشى مع الشريعة الإسلامية ليس مستحيلاً، بل إن الاقتصاد الإسلامي يشجع على تحسين الكفاءة الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية، إذا ما تم ذلك وفقاً لمبادئ واضحة تحمي مصالح المجتمع وتمنع الاحتكار”.
ويضيف الناظر: “يمكن أن يتحقق هذا التوافق عبر استخدام أدوات التمويل الإسلامي مثل الصكوك والشراكات التي تعتمد على نظام المضاربة والمشاركة، بالإضافة إلى استخدام آليات الإجارة التي تسمح بتأجير الأصول لفترات طويلة مع بقاء ملكيتها للدولة”.
هذا النهج يضمن تحقيق التوازن بين الحصول على أرباح من تشغيل الأصول وبين حماية حقوق المواطنين من ارتفاع التكاليف أو تركيز الثروة في أيدي قلة من المستثمرين. وفي هذا السياق، قد يكون هناك خيارات لإنشاء “هيئات شرعية” تُشرف على عملية الخصخصة لضمان توافقها مع أحكام الشريعة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
دروس التجارب الدولية وأثرها على نموذج الخصخصة السوري
على الصعيد الدولي، تبرز عدة تجارب في تطبيق الخصخصة يمكن أن تُشكل دروساً قيمة لسوريا. ففي دول مثل تشيلي، أدت عملية خصخصة قطاعات مثل الاتصالات إلى تحسين جودة الخدمات وزيادة الإنتاجية بفضل التخطيط الدقيق والإدارة الشفافة. من جهة أخرى، تُظهر التجربة الروسية في تسعينيات القرن الماضي أن تطبيق الخصخصة بشكل عشوائي ومن دون رقابة قد يؤدي إلى فساد واسع النطاق وتركيز الثروة في أيدي مجموعة ضيقة من المستثمرين، مما ترك آثاراً سلبية على الاقتصاد.
كما أن التجارب المصرية والبريطانية في الماضي تعطي إشارات مهمة؛ ففي مصر، أدت عمليات الخصخصة التي شابها انخفاض في قيمة الأصول إلى انكماش اقتصادي، في حين شهدت بريطانيا انخفاضاً في مستوى الخدمات في بعض المناطق الريفية نتيجة لتركيز المستثمرين على القطاعات المربحة من دون مراعاة الأبعاد الاجتماعية.
تؤكد هذه التجارب أن نجاح عملية الخصخصة لا يعتمد فقط على بيع الأصول، بل يتطلب اتباع نهج متوازن يجمع بين كفاءة الإدارة وحماية المصلحة العامة. وهذا مهم لتتبنى سوريا نموذجاً يستند إلى الشفافية والحوكمة الرشيدة، مع دراسة متأنية للأصول المراد خصخصتها، والتأكيد على أن عملية البيع أو الشراكة لا تتم على حساب حقوق المواطنين أو استقرار الخدمات الأساسية.
معايير النجاح والتوصيات المستقبلية
إن نجاح عملية الخصخصة في سوريا يعتمد على مجموعة من المعايير التي يجب أن تُراعى لضمان تحقيق الأهداف المرجوة دون التأثير سلباً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
أولاً، يتعين إنشاء إطار قانوني وتنظيمي متين يضمن الشفافية والمنافسة العادلة بين المستثمرين، بالإضافة إلى وضع آليات رقابية صارمة. كما يُعدّ التقييم المالي الدقيق للأصول من الأساسيات التي تُساعد في تحقيق سعر عادل يُرضي جميع الأطراف.
ومن جهة أخرى، يجب العمل على حماية الفئات الاجتماعية الضعيفة والعمال الذين قد يتعرضون لتسريحات نتيجة لإعادة هيكلة الشركات، من خلال تبني سياسات اجتماعية شاملة تتضمن برامج تدريبية وإعادة تأهيل، إلى جانب تأمين حقوقهم الأساسية. كما ينبغي للدولة أن تُعيد النظر في القطاعات التي يجب خصخصتها مقابل تلك التي لا غنى عنها لضمان استمرار تقديم الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم وغيرها من دون أي تراجع.
علاوة على ذلك، يوصى بدمج أدوات التمويل الإسلامي في عمليات الخصخصة، مما يعزز من توافقها مع مبادئ العدالة الاجتماعية والشريعة الإسلامية. يمكن تحقيق ذلك عبر استخدام الصكوك الإسلامية، ونماذج الشراكة القائمة على المضاربة والمشاركة، إضافة إلى نظام الإجارة الذي يتيح تشغيل الأصول من دون التخلي عنها بشكل كامل.
تستلزم التوصيات المستقبلية أيضاً تبني نموذج شراكة استثماري يتيح للدولة الحفاظ على السيطرة على الأصول الحيوية مع الاستفادة من خبرات القطاع الخاص في تحسين الأداء وإدخال التقنيات الحديثة؛ إذ إن اتخاذ مثل هذا المسار سيمكّن سوريا من تحقيق توازن بين الاستفادة من الكفاءات الخاصة وبين حماية حقوق المواطنين. كما أنه سيسهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً وجاذبية للاستثمارات على المدى الطويل.
بشكل عام، تُعتبر الخصخصة في سوريا موضوعاً معقداً يتطلب دراسة معمقة وتحليلاً دقيقاً لكل معطيات الاقتصاد الوطني والسياق السياسي والاجتماعي المحيط. ويمكن تحويل هذه العملية إلى محرك رئيسي للنمو الاقتصادي والإصلاح الهيكلي الذي تنشده البلاد من خلال تبني أسلوب تنفيذي مدروس وشامل. فمستقبل الاقتصاد السوري يعتمد على القدرة على تحقيق توازن بين الاستفادة من خبرات القطاع الخاص وبين الحفاظ على مصالح الشعب والوطن، وهو ما يتطلب رؤية واضحة، وإرادة سياسية، وإطاراً تشريعياً قوياً يدعم هذه التحولات.
#بين #الضرورة #والجدل. #هل #تنجح #الخصخصة #في #سوريا #بإنقاذ #القطاع #العام
المصدر : مقيم أوروبا ومواقع انترنت وغوغل👇
إرسال التعليق
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.