بعد عقود من القمع، التجهيل، والممارسات التي حولت المدرسة إلى سجن والجامعة إلى مفرخة للولاءات، انتهى نظام الأسد، وسقط معه نظامه التعليمي البالي، الذي جعل من المدارس مؤسسات عقابية أكثر منها بيئات تعليمية، وحوّل الجامعات إلى مصانع لشهادات ورقية لا تُقدم ولا تُؤخر.
اليوم، نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء التعليم السوري، ليس فقط لإصلاح ما أفسده النظام، بل لإعادته إلى دوره الحقيقي كركيزة أساسية في بناء المستقبل. لكن السؤال الجوهري هو: كيف؟
1. التخلص من إرث التلقين والولاء الأعمى
لطالما كان التعليم في سوريا محكومًا بـ “منهاج الحزب قبل منهاج العلم”، حيث كان الطالب يُطلب منه حفظ الشعارات أكثر من فهم المعادلات، وكان المعلم يُقيم بناءً على ولائه الأيديولوجي لا على كفاءته العلمية.
الخطوة الأولى إذن هي التخلص من هذا الإرث السام عبر:
● إزالة كل المحتوى السياسي العقيم من المناهج الدراسية.
● إعادة الاعتبار للعلوم، الفنون، والفكر النقدي بدلًا من التعليم القائم على الطاعة العمياء.
● استبدال الأساليب القمعية القائمة على الضرب والإهانة بأساليب تربوية حديثة تعتمد على التحفيز والابتكار.
التعليم ليس معسكرًا للتلقين، بل مساحة للفكر الحرّ، والنظام التعليمي الجديد يجب أن يعكس ذلك.
2. بناء مناهج تعليمية عصرية ومرنة
المناهج السورية تحت نظام الأسد كانت إما قديمة لا تتماشى مع العصر، أو محشوة بالدعاية الفارغة. حان الوقت للتخلص من هذا الركام، وتطوير مناهج حديثة قادرة على تأهيل جيل قادر على قيادة المستقبل.
يجب أن تشمل هذه المناهج:
● التعليم التفاعلي الذي يعتمد على التحليل والتفكير، لا على الحفظ الأعمى.
● مواد علمية وتقنية متقدمة بدلًا من التكرار العقيم لمعلومات تجاوزها الزمن.
● إدراج التعليم الرقمي والبرمجة من المراحل الأولى، لمواكبة العصر.
● إعادة الاعتبار للفنون والفلسفة، لأن مجتمعات بلا ثقافة وفكر ناقد ستعود إلى القمع ولو تغيّر الحكام.
بناء منهاج جديد لا يعني فقط تغيير الكتب، بل تغيير طريقة التفكير في التعليم نفسه.
3. إصلاح النظام الجامعي: من “الواسطة” إلى “الكفاءة”
الجامعات السورية في عهد الأسد كانت أقرب إلى دوائر حكومية مترهلة، حيث لا ينجح الطالب بكفاءته، بل بعلاقاته وولاءاته. كما كانت الجامعة ساحة للقمع الأمني بدلًا من أن تكون فضاءً للبحث والتطوير.
في النظام التعليمي الجديد، يجب أن تكون أولوية الجامعات السورية:
● استقلالية الجامعات عن أي سلطة سياسية أو عسكرية.
● الاعتماد على الكفاءة لا على المحسوبية في التوظيف والمنح الدراسية.
● تطوير البحث العلمي وتوفير بيئة أكاديمية مشجعة على الإبداع.
● فتح المجال أمام التعاون مع الجامعات العالمية، لكسر العزلة التي فرضها النظام السابق.
4. المعلم: من موظف مسحوق إلى قائد تربوي
تحت حكم الأسد، كان المعلم ضحية مزدوجة: فهو مقموع من النظام، وفقير بسبب تدني الرواتب، ومُجبر على تلقين ما لا يؤمن به.
المعلم هو أساس أي نهضة تعليمية، ويجب إعادة تأهيله ليكون مربيًا حقيقيًا، لا مجرد منفذ لأوامر وزارة التعليم.
لتحقيق ذلك، يجب:
● رفع رواتب المعلمين لجعل مهنة التعليم جذابة لا مجرّد “وظيفة اضطرارية”.
● توفير برامج تدريب مستمرة لتحديث أساليب التدريس.
● منح المعلمين حرية أكبر في اختيار طرق التدريس وفقًا لقدرات الطلاب، بدلًا من فرض مناهج جامدة.
لا تعليم من دون معلم حرّ ومؤهل، ولا معلم حقيقي في بيئة تفتقد الاحترام والتقدير لمهنته.
5. التعليم المهني والتقني: هل كل طالب بحاجة إلى شهادة جامعية؟
في سوريا ما بعد الأسد، يجب إعادة النظر في مفهوم “التعليم الجامعي للجميع”. فبينما كانت العائلات ترى أن النجاح لا يتحقق إلا بشهادة جامعية، فإن الواقع الجديد يفرض علينا الاعتراف بقيمة التعليم المهني والتقني.
يجب إنشاء مدارس ومعاهد مهنية متطورة، بحيث يتمكن الطلاب من تعلم مهارات عملية مثل:
● البرمجة والتكنولوجيا
● الحرف اليدوية والصناعات الدقيقة
● الهندسة التطبيقية والتصميم الصناعي
ليس كل طالب يحتاج إلى شهادة جامعية، ولكن كل طالب يحتاج إلى مهارة تجعله فردًا منتجًا في المجتمع.
6. التعليم في المهجر: هل يمكن استعادة العقول المهاجرة؟
خلال العقود الماضية، هاجر مئات الآلاف من العقول السورية بحثًا عن بيئة تعليمية أفضل. الآن، ومع انهيار النظام، نحن أمام تحدٍّ كبير:
● كيف نقنع هؤلاء بالعودة والمساهمة في بناء نظام تعليمي جديد؟
● كيف نستفيد من خبراتهم لنقل أفضل الممارسات التعليمية إلى سوريا؟
● كيف نوفر بيئة مستقرة تشجع على استثمار الكفاءات داخل البلاد بدلًا من تصديرها للخارج؟
إذا لم نضع استراتيجية واضحة لجذب العقول السورية المهاجرة، سنجد أنفسنا نكرر الأخطاء نفسها التي جعلت من سوريا دولة طاردة للكفاءات.
7. التمويل والإدارة: من الفساد إلى الشفافية
لا يمكن بناء نظام تعليمي حديث من دون تمويل شفاف وفعال. في السابق، كان تمويل التعليم يُهدر في البيروقراطية والفساد، وكان تطوير المدارس والجامعات خاضعًا لمزاجية الأجهزة الأمنية بدلًا من رؤية وطنية.
الآن، يجب أن يكون التمويل:
● مستقلًا عن أي تدخل سياسي، بحيث تدار ميزانية التعليم بشفافية تامة.
● معتمدًا على استثمارات حقيقية في البحث العلمي والتطوير.
● مفتوحًا للتعاون مع المنظمات الدولية الداعمة للتعليم.
بلا تمويل جيد، ستظل الإصلاحات التعليمية مجرد أحلام جميلة على الورق.
هل نغتنم الفرصة؟
اليوم، ونحن نعيد بناء سوريا بعد عقود من القمع والفساد، لدينا فرصة لا تتكرر لإصلاح نظامنا التعليمي وإعادته إلى مكانته الحقيقية. لكن الفرص لا تدوم إلى الأبد، وإذا لم نتحرك الآن، فقد نجد أنفسنا بعد سنوات نواجه المشكلات القديمة نفسها بأسماء جديدة.
إعادة بناء التعليم ليست مجرد إصلاح المناهج أو ترميم المدارس، بل هي إعادة بناء العقل السوري، ليكون قادرًا على التفكير بحرية، والإبداع بلا قيود، والمساهمة في مستقبل يستحقه.
السؤال الآن ليس: “هل يمكن إصلاح التعليم؟”
بل: “هل نحن مستعدون للاستثمار فيه كأولوية حقيقية؟”