يصطف فى حى المسارح «وست إند West end» ما يقرب من أربعين دور عرض مسرحى حديثة وقديمة، وتعرض هذه الدور عددًا يصعب حصره من المسرحيات التى تتراوح بين العروض المسرحية Theatre Performances وعروض الرقص والعروض الموسيقية والمسرحيات الدرامية والعروض المركبة، ويتراوح سعر التذكرة بين ٦ جنيهات و٢٠٠ جنيه إسترلينى حسب مكان العرض ومدى شهرته ونوعه الفنى.  

وحتى لا يختلط الأمر على  القارئ لا يوجد فى لندن، وربما فى إنجلترا كلها، إلا المسارح التجارية، فسواء كان المنتج شركة أو جهة حكومية أو مؤسسات ثقافية لا توجد وسيلة للدخول إلا بشراء التذاكر حسب مقدرتك، وبالتالى لا توجد عروض مجانية أو مفتوحة للجمهور إلا بعض عروض الشارع الاحتفالية أو الكرنفالية. 

لقد حُسم هذا الأمر منذ وقت طويل داخل المجتمع الفنى فلا يوجد دعم إنما يوجد تصنيع ثقافة، وهو شكل إنتاجى يحتاج إلى درجة من الوعى وطرح بدائل أخرى أمام المواطنين، لذا فالصبغة التجارية فى حى الوست إند هى الصبغة السائدة. 

الملاحظة الأولى إذا كنت تبحث عن عرض مسرحى متحفى يقدم لك شكلًا كلاسيكيًا للمسرح فأنت فى المكان الخطأ، فأغلب المسرحيات فى الوست إند تنحو إلى المودرنية، ورغم وجود رقابة مسرحية وسينمائية فإنها لا تتدخل فى العمل فى أغلب الأحوال إنما يلجأ إليها المنتجون لطلب الاستشارة، ولا توجد خطوط حمراء ولكن أغلب فنانى المسرح يعرفون حدودهم ويدركون المسئولية الاجتماعية.

ومن أشهر العروض المسرحية التى تُقدَم فى حى الوست إند: البؤساء. شبح الأوبرا. كتاب المورمون. ماتيلدا. مام ماميا. بيت دمية ٢. سيدتى الجميلة. بوب مارلى. مولان روج. طائر البحر. أنتيجون. جنوب الباسفيك. قصة سايمون وجرانفيل. بيت المجانين. الحيوانات الزجاجية. السيدات فى الملابس السوداء. الملك لير. العرش. المشى مع الأشباح. العاصفة. يوليوس قيصر.. وكثير مما يستحيل حصره.. أما الملاحظة الجميلة هنا فهى تعظيم وجود الجانب الاجتماعى داخل المسارح، حيث توجد فى كل المسارح أماكن تقدم الشاى والقهوة والوجبات الخفيفة وما شابه، ويعتمد المسرح على هذه الأماكن فى تعظيم دخله، وغالبًا ما يتولى العاملون داخل المسرح الخدمة داخل هذه البارات ويُدخلون الجمهور للمقاعد دون ضجة، ولا يوجد موظف فى المسرح من طاقم الإدارة له وظيفة واحدة بحال من الأحوال من أول مدير المسرح حتى عمال النظافة. 

الملاحظة الثانية أن أغلب المسارح تقوم ببيع نص العرض المسرحى بسعر رمزى وطباعة جيدة، وهو أمر محمود قد يستفيد منه المسرح المصرى لأنه يعرّف المجتمع بالكتّاب المسرحيين الراحلين والجدد ويضع وسيلة الاتصال بهم أو بمن ينوب عنهم، وينشط حركة القراءة فى المسرح ويعزز السوق المسرحية التى تعتمد فى الأساس على المجتمع، هذا وتعتقد غالبية المسارح أن الكاتب هو المبدع المؤسس لتجربة العرض المسرحى.

بيت دمية: الجزء الثانى- لندن ٢٠٢٢:

أتذكر عندما كنت طالبًا فى أول سنة فى قسم المسرح، كان الدكتور لطفى عبدالوهاب، مؤسس ورئيس قسم المسرح، يستقدم للقسم خيرة معلمى المسرح من القاهرة، فكان أن استقدم أستاذنا الدكتور فخرى قسطندى لتدريس مادة المسرح الأوروبى ربما لطلاب الفرقة الثالثة آنذاك، ولأنى كنت وما زلت شغوفًا بالمسرح الأوروبى والأمريكى فقد كنت أحضر محاضراته للفرقة الثالثة، وكان يدرس لزملائى آنذاك مسرحية «بيت دمية» A Doll›s House التى كتبها الكاتب النرويجى هنريك إبسن Henrik Ibsen الذى يعد واحدًا من الآباء المؤسسين للدراما الحديثة. 

وكان أستاذنا فى سياق تحليل المسرحية يعمد إلى غلق باب قاعة المحاضرات بقوة «يرزعه» حتى يكاد الباب أن ينخلع من موضعه، ثم يقول: هكذا صفقت نورا الباب من ورائها عندما خلعت خاتم الزواج وتركت بيت الزوجية، ثم يستطرد: هذه الصفقة التى أحدثت دويًا مزلزلًا فى كل أنحاء أوروبا بعدما خرجت نورا معلنة رفضها وتمردها على التقاليد الأوروبية السائدة آنذاك داخل مؤسسة الزواج فى أوروبا. كان أستاذنا يحبس أنفاسنا وهو يعيد تمثيل مشهد صفقة الباب عدة مرات ثم يحدثنا بلغته المتفردة التى تحمل آثار لهجة صعيدية على بقايا عامية من حى شبرا وإنجليزية رصينة تعلمها وأتقنها فى جامعات إنجلترا. قفزت إلى ذهنى كل هذه الأمور وأنا أشاهد مسرحية «بيت دمية: الجزء الثانى» التى كتبها الكاتب الأمريكى Lucas Hnath،  والتى تعرض على مسرح دونمار Donmar فى حى كوفنت جاردن Covent Garden بوسط لندن، والتى تبدأ بعودة نورا بعد غيبة امتدت ١٥ عامًا، وها هى تطرق الباب الذى صفقته من قبل وسمع دويه فى كل أنحاء أوروبا! نعم عادت يا أستاذنا وطرقت الباب برفق بعد أن صفقته ومضت!

عادت نورا التى قدمها لنا المؤلف الأمريكى لوكاس هنث، إنها من ذوى البشرة السمراء، مما يضفى على القضية أبعادًا سياسية واجتماعية من ناحية العرق واللون.. الشاهد: عادت نورا وطرقت الباب برفق ففتحت لها آن مارى مدبرة المنزل وتعرفت عليها وهى مندهشة من عودتها بعد كل هذه السنين!!! تتطلع نورا فى بيتها فتجده قد تغير، فقد تخلصوا من الصور التى كانت تحبها ومن الأثاث الذى رتبته بطريقة تتفق وذوقها الخاص، وقد تولت آن مارى تربية أولادها.  

تكتشف مدبرة المنزل أن نورا قد صارت ميسورة الحال بعد أن أصبحت كاتبة كبيرة تؤلف وتنشر كتبًا كثيرة بأسماء مستعارة عن قضايا وحقوق المرأة ومشاكلها، ولكنها اكتشفت أنها رسميًا وقانونيًا ما زال اسمها نورا هيلمر، أى أنها ما زالت تحمل اسم زوجها لأنها لم تُطلَّق رسميًا ولكنها فضت علاقتها مع زوجها تورفالد Torvald عندما خلعت خاتم الزواج وتركته على المائدة ومضت! لكن هذا غير كافٍ من الناحية القانونية، وبالتالى فهى تحتاج لورقة الطلاق الرسمية للأهمية. لقد مثّلت عودة نورا للبيت إعادة محاكمة للماضى ولقوانين المؤسسة الزوجية ودخلت فى مواجهات مع مدبرة المنزل وزوجها وابنتها. 

لقد رأت آن مارى أن نورا قد احتقرت قوانين الأسرة وضربت بها عرض الحائط عندما خرجت من البيت، وبالتالى لم يعد لها مكان فى هذا البيت وعليها أن تمضى وتخرج من الباب وهى خبيرة فى التعامل مع الأبواب. 

يعود الزوج من عمله ويفاجأ بعودتها وتضع له نورا مقعدًا حتى يكون فى مواجهتها وهما يتفاهمان، ولكنه يتوارى منها ويدير مقعده حتى يعطيها جنبه أو ظهره، ويظهر من حديثه أنه ليس لديه نوايا سيئة ولكنه فظ ولن يعطيها ورقة الطلاق لأنها مَن ترك البيت وسببت له فضيحة عائلية! كما وصفته نورا بأنه ينظر لها طوال الوقت ولكنه لا يراها وبالتالى لا يصل لأعماقها. 

تتأجل المواجهة بينهما وتقابل نورا ابنتها إيمى Emmy، وهى شابة مخطوبة لرجل يعمل فى البنك مثل والدها، وتخبر نورا بأن كل الناس من حولهم يعتقدون أن نورا قد ماتت وكل أصدقائهم ومعارفهم يعرفون مسألة موتها، حتى البلدية كانت ترسل لهم فى الأعياد معونات حتى يساعدوا الأب. لقد تواطأ الجميع على هذه المسألة. وعندما قالت لها نورا إنها تحتاج لورقة الطلاق فردت إيمى: الأفضل أن تظلى فى عيون الناس ميتة وبالتالى لن تحتاجى لورقة طلاق لأنك ميتة والموتى لا يتزوجون ولا ينفصلون، فتدرك نورا أن الجميع قد أسقطها من حسابه!!! تعجبت نورا من براجماتية ابنتها ورؤيتها للمسألة. فإذا كانت آن مارى قد حاكمت الماضى مع نورا فقد حاكم تورفالد الماضى والحاضر لكن إيمى قد ذهبت بعيدًا فقد حاكمت الماضى والمستقبل. 

يعود تورفالد وقد سال الدم من رأسه بعد أن اشتبك مع موظف الشهر العقارى الذى رفض أن يختم له وثيقة الطلاق، ولما اشتبك شج رأسه ولكنه نجح فى النهاية فى الحصول على الوثيقة، لكن نورا أخبرته بأنها لم تعد تحتاج لها، فيدخل تورفالد فى مشادة كلامية عنيفة معها، وعندما تبكى نورا يتقدم تورفالد نحوها ويمسك يديها فى لحظة مصالحة عاطفية، ولكنها تقوم وتمضى من الباب وتصفقه من ورائها مرة أخرى! 

إذا كانت «بيت دمية»، التى كتبها هنريك إبسن وغيّر نهايتها أكثر من مرة من خوفه من مواجهة المجتمع، بها كثير من التحريض على تحرر المرأة واستقلال قرارها، فالجزء الثانى الذى كتبه لوكاس هنث يمضى فى ذات الاتجاه، بل يدين القوانين التى أنتجتها المؤسسة السياسية والاجتماعية والتى تنطوى على عنف أخلاقى تجاه المرأة. الأفكار كثيرة ويمكن التقاطها وتفكيكها وتحليلها ولن تنضب، لكن أجمل ما شاهدت فى هذه المسرحية هو التمثيل غير العادى، مما يؤكد مقولة هنرى جرانفيل باركر إن فن المسرح هو فن التمثيل  أولًا ودائمًا وأخيرًا وفى كل الأحوال.